### **الغش: تعددت الأقنعة والجريمة واحدة**
في نسيج أي مجتمع متماسك، يمثل الصدق والشفافية
خيوط الذهب التي تمنحه القيمة والمتانة.
![]() |
### **الغش: تعددت الأقنعة والجريمة واحدة** |
- وعلى النقيض، يقف الغش كحمضٍ أكّال، لا يكتفي بإتلاف بقعة بعينها، بل يتسلل بصمت ليُضعف
- النسيج بأكمله، مهددًا بتمزيقه. إنها ظاهرة خادعة في بساطتها الظاهرية، معقدة في جذورها، ومدمرة
- في آثارها. قد تتغير أقنعته وتتعدد مسارحه، من بريق الأضواء في عالم الفن، إلى قدسية قاعات
- الدرس، لكن جوهره يبقى واحدًا: جريمة بحق الحقيقة، وخيانة للثقة، وتقويض لأساس العدالة والمكافأة
- المستحقة.
#### **الخداع الفني عندما يسقط قناع الإبداع**
يبدو عالم الفن، بكل ما يحيط به من هالة الإبداع والأصالة، بعيدًا عن الممارسات الدنيوية المبتذلة كالغش. لكن الحقيقة أن هذا العالم ليس محصنًا. ولعل أبرز صور الخداع الفني وأكثرها شيوعًا هي تقنية "البلاي باك" أو "تحريك الشفاه".
- لا يمكن إنكار دورها الوظيفي والمقبول في سياقات محددة؛ فالسينما الهندية، على سبيل المثال، قامت
- على هذا المفهوم، حيث يُسند الغناء لأصوات متخصصة بينما يؤدي النجوم التمثيل، وهو عرف فني
- يفهمه الجمهور ويقبله كجزء من الصناعة. وكذلك في السينما المصرية، عندما أطلت علينا نبيلة عبيد
- في فيلم "رابعة العدوية"، لم يكن أحد يتوقع منها أن تغني بصوتها، بل كانت الشفاه تتحرك على وقع
- صوت كوكب الشرق أم كلثوم، في تكامل فني يخدم الدراما.
لكن الكارثة تحدث عندما ينتقل هذا العرف من شاشة
السينما المتفق على قواعدها، إلى خشبة المسرح الحي. فالمسرح هو معبد الأصالة،
والميثاق غير المكتوب بين الفنان والجمهور يقوم على "الآنية" والتفاعل
اللحظي. الجمهور لا يدفع ماله ووقته ليشاهد استعراضًا مسجلاً، بل ليشارك الفنان
تجربة فريدة، حية، تتنفس أمامه. عندما يقف مطرب، مهما علا شأنه، ويحرك شفاهه على
صوت مسجل، فهو يرتكب عملية نصب متكاملة الأركان. إنه يبيع لجمهوره وهمًا، ويسرق
منهم لحظة الصدق التي جاؤوا من أجلها.
- الحادثة الشهيرة للفنان سمير الإسكندراني في الثمانينيات، حينما تحدث مع أحد الحاضرين بينما استمر
- صوته المسجل في الغناء، لم تكن مجرد هفوة تقنية، بل كانت لحظة كاشفة، حيث سقط القناع بشكل
- هزلي ومأساوي في آن واحد. ضحكات الجمهور الساخرة كانت بمثابة إعلان إدانة شعبية لتلك
- الخدعة.
- والمؤسف أن نرى فنانة بحجم وموهبة شيرين عبد الوهان، التي وهبها الله صوتًا استثنائيًا، تلجأ
- مؤخرًا إلى الأسلوب نفسه. قد نتعاطف مع ظروفها الشخصية، ونشفق على تراجع لياقتها البدنية
- والصوتية، لكن هذا التعاطف لا يمكن أن يكون مبررًا لخداع جمهورها الذي أحبها لصوتها الحي. هنا
- يكمن الفارق الجوهري بين الفنان الحقيقي والمؤدي؛ فنانون كأم كلثوم التي غنت حتى آخر رمق في
- حياتها وهي في الخامسة والسبعين، وعبد الحليم حافظ الذي كان يصارع المرض على المسرح ليقدم
- لجمهوره كل ما يملك من طاقة، لم يخذلا الأمانة أبدًا، لأنهما فهما أن الفن رسالة، والصدق هو روح
- هذه الرسالة.
ولا يقتصر الغش الفني على الصوت، بل يمتد إلى الصورة والفكرة. ما شهدناه من فنانات مغمورات يسطون على أعمال فنانين عالميين، وينسبونها لأنفسهم، هو نوع آخر من الإفلاس الأخلاقي والإبداعي. قضية الفنانة التي سرقت تصميمات فنان روسي قبل سنوات، وتقاضت مقابلها ملايين من خزينة الدولة دون محاسبة، تمثل جرحًا غائرًا في جسد الثقة العامة. وعندما تتكرر المأساة مع أخرى تدّعي على الهواء مباشرة ملكيتها للوحات لا تمت لها بصلة، وتتلعثم في شرحها لأنها ببساطة لا تفقه شيئًا في فن الرسم، ندرك أننا أمام نمط سلوكي خطير.
والأخطر هو تلك الأصوات التي ترتفع للدفاع عنها، مطالبة بـ"عدم جلدها" وربط فعلتها الاحتيالية بمشاكلها الشخصية مع طليقها النجم الشهير. هذا الخلط المتعمد بين ما هو شخصي وما هو عام، بين الأزمة الخاصة والجريمة المهنية، هو ما يفتح الباب على مصراعيه لتبرير كل أشكال الفساد والغش.
#### **الغش في التعليم قنبلة موقوتة في أساس المستقبل**
إذا كان الغش في الفن يثير الغضب لأنه يفسد
الذائقة ويخون الثقة، فإن الغش في التعليم هو الكارثة الحقيقية، لأنه لا يفسد
الحاضر فحسب، بل يدمر المستقبل برمته. إنه أشبه بزرع ألغام في أساسات بناء الأمة. فالطالب
الذي ينجح بالغش اليوم، هو الطبيب الفاشل الذي سيودي بحياة المرضى غدًا، والمهندس
الجاهل الذي ستنهار مبانيه، والمحامي الذي سيضيع الحقوق، والمعلم الذي سينشئ جيلاً
جديدًا من الغشاشين.
- الحادثة المروعة التي تعرضت لها المعلمة الفاضلة التي أدت واجبها المهني والأخلاقي ومنعت الغش
- في لجنة امتحان، لتجد نفسها مطاردة بشكل همجي من قبل أمهات الطلاب بالسباب والتهديد، تكشف
- عن مدى تغلغل هذا السرطان في النسيج المجتمعي. لم تعد المشكلة في الطالب الذي يغش، بل في ولي
- الأمر الذي يدافع عن الغش ويعتبره حقًا مكتسبًا لابنه، ويهاجم من يقف في طريقه. هنا، ينقلب الهرم
- القيمي رأسًا على عقب، فيصبح الأمين مجرمًا، والغشاش ضحية.
غياب العقاب الرادع هو الوقود الذي يبقي هذه
النار مشتعلة. فعندما لا يعاقب المعتدون على المعلمة، وعندما تمر وقائع الغش
الجماعي دون محاسبة حقيقية، نرسل رسالة واضحة للجميع: "من أمن العقاب أساء
الأدب". تتحول الأمانة والشرف إلى عبء، والاجتهاد إلى سذاجة، بينما يصبح الغش
هو الطريق الأذكى والأسرع للنجاح. والناجحون بالغش لا يضرون أنفسهم فقط، بل يجرون
المجتمع بأسره إلى الخلف، إلى مستنقع من التخلف والجهل والفساد، حيث لا قيمة
للكفاءة ولا مكان للمجتهد.
#### **علم نفس الغشاش والمجتمع المتواطئ**
لماذا يغش الناس؟ الأسباب تتراوح بين الضغط
النفسي لتحقيق النجاح بأي ثمن، وغياب الوازع الأخلاقي، والشعور بأن "الجميع
يفعل ذلك". لكن الأخطر من دوافع الغشاش نفسه هو رد فعل المجتمع من حوله. إن "التعاطف
مع الغشاشين" هو أخطر من الغش ذاته.
هذا التعاطف السام يتخذ أشكالاً عدة:
1. **التبرير
العاطفي:** ربط جريمة الغش بظروف شخصية صعبة، كما حدث مع الفنانة سارقة اللوحات. هذا
ينم عن عجز عن الفصل بين الشفقة الإنسانية والحكم الأخلاقي الموضوعي.
2. **التقليل
من شأن الجريمة:** استخدام عبارات مثل "هي مش أول ولا آخر واحدة"، أو "البلد
فيها فساد أكبر من كده بكتير". هذا المنطق يهدف إلى تطبيع الانحراف وجعله
مقبولاً بالمقارنة مع انحرافات أكبر.
3. **الانحياز
القبلي أو العائلي:** الدفاع عن الغشاش لأنه "ابننا" أو "قريبنا"،
كما فعلت أمهات الطلاب، متجاهلين أن هذا الدفاع يدمر مستقبل أبنائهم الحقيقي على
المدى الطويل.
هذا التواطؤ المجتمعي يخلق بيئة موبوءة، يشعر
فيها الإنسان الشريف بأنه غريب ومنبوذ. وعندما يرى أن الغشاشين لا يُعاقبون بل قد
يُحتفى بهم أحيانًا، وأن المتمسكين بالمبادئ يُسخر منهم أو يُعتدى عليهم، فإنه
يواجه خيارين مريرين: إما أن ينضم إلى القطيع، أو أن يعيش على هامش مجتمع فقد
بوصلته الأخلاقية.
#### ** "من غشنا فليس منا"**
في نهاية المطاف، كل صور الغش هذه، من "البلاي
باك" على المسرح، إلى سرقة اللوحات، إلى ورقة الإجابة المنقولة في الامتحان،
تصب في نهر واحد عكر هو نهر الخداع. إنها جميعًا أعراض لمرض واحد: انهيار منظومة
القيم التي تضع الصدق والكفاءة والجهد في المقام الأول.
- إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون فقط بسن القوانين وتغليظ العقوبات -رغم أهمية ذلك- بل تبدأ من
- إعادة بناء الوعي المجتمعي. تبدأ من الأسرة التي تربي أبناءها على أن الشرف لا يتجزأ، ومن
- المدرسة التي تعلم أن النجاح الحقيقي هو نتاج الفهم والاجتهاد وليس الحفظ والغش، ومن الإعلام الذي
- يكف عن تلميع
الغشاشين وتقديمهم كضحايا.
الختام
القول النبوي الشريف "من غشنا فليس منا" ليس مجرد وعيد ديني، بل هو دستور اجتماعي خالد. "منا" هنا لا تعني فقط الانتماء الديني، بل تعني الانتماء إلى جماعة إنسانية متحضرة، قائمة على الثقة المتبادلة والعدل. فالغشاش، بفعله، يختار طواعية أن يضع نفسه خارج هذا العقد الاجتماعي، أن يكون عنصرًا هادمًا لا بانِيًا.
والمعركة ضد الغش ليست معركة ضد أفراد، بل هي
معركة من أجل روح المجتمع، ومن أجل مستقبل يستحقه الشرفاء والمجتهدون.