### **أصداء من الأنديز: اكتشاف معبد مفقود لحضارة تيواناكو في بوليفيا يعيد كتابة فصول من التاريخ**
في قلب مرتفعات بوليفيا الشاهقة، حيث تلامس
السحب قمم الجبال وتنسج الرياح حكايات الماضي، تكشّف حجاب الزمن عن سرٍ دفين،
معلنًا عن اكتشاف أثري استثنائي من شأنه أن يعيد تشكيل فهمنا لواحدة من أكثر
الحضارات غموضًا وتأثيرًا في أمريكا الجنوبية قبل عصر الإنكا: حضارة تيواناكو.
![]() |
### **أصداء من الأنديز: اكتشاف معبد مفقود لحضارة تيواناكو في بوليفيا يعيد كتابة فصول من التاريخ** |
- فقد أعلن فريق من علماء الآثار عن تحديد موقع معبد ديني ضخم ومستوطنة محيطة به في مقاطعة
- أورورو، على بعد مئات الكيلومترات من المركز التقليدي المعروف لهذه الحضارة، مما يطرح
- أسئلة جديدة ويقدم
إجابات محتملة حول المدى الحقيقي لنفوذها وتعقيدها التنظيمي.
#### **الاكتشاف نافذة على عالم منسي**
يقع الموقع المكتشف، الذي أُطلق عليه اسم "بالاسباتا" (Waskiri)، على قمة تل
استراتيجي يطل على المناظر الطبيعية الوعرة لمقاطعة أورورو، على بعد حوالي 215
كيلومترًا جنوب العاصمة لاباز. والمفارقة أن هذا الموقع الهام ظل مجهولاً لقرون،
على الرغم من قربه من مسار محلي وطريق وطني حيوي لا يبعد عنه سوى 250 مترًا. بدأ
الكشف عن خيوط القصة في عام 2021، عندما عُثر على قطع أثرية تعود إلى ما قبل
الحقبة الإسبانية أثناء أعمال توسعة للطريق القريب، مما أثار فضول الباحثين ودفعهم
لإجراء مسح أكثر شمولاً.
- بقيادة عالم الآثار خوسيه كابريليس من جامعة ولاية بنسلفانيا، استخدم الفريق تقنيات حديثة، بما في
- ذلك تحليل صور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة، لتأكيد أن الهياكل المدفونة تحت الأرض ليست
- مجرد بقايا متناثرة، بل هي جزء من مجمع معماري منظم يعود لحضارة تيواناكو. وتشير التقديرات
- الأولية إلى أن الموقع قد شُيّد في الفترة الكلاسيكية للحضارة، أي بين عامي 600 و1000
ميلادي.
يمتد الهيكل الرئيسي للمعبد على مساحة 1.8
هكتار، وهو حجم كبير يدل على أهميته الدينية والإدارية. والأكثر إثارة هو أن
التقديرات تشير إلى أن المستوطنة البشرية المحيطة بالمعبد قد تغطي مساحة تصل إلى 75
هكتارًا، مما يعني أننا لا ننظر إلى مجرد مركز احتفالي معزول، بل إلى مدينة أو
مركز إقليمي متكامل كان يعج بالحياة والنشاط.
#### **حضارة تيواناكو بناة الأنديز العظام**
لفهم أهمية هذا الاكتشاف، لا بد من إلقاء نظرة
على حضارة تيواناكو نفسها. قبل صعود إمبراطورية الإنكا بفترة طويلة، هيمنت حضارة
تيواناكو على منطقة الأنديز الوسطى لأكثر من ألف عام (تقريبًا من 400 إلى 1100
ميلادي). كان مركزها الروحي والسياسي هو مدينة تيواناكو المهيبة، الواقعة على
الشواطئ الجنوبية لبحيرة تيتيكاكا، أعلى بحيرة صالحة للملاحة في العالم.
- اشتهر أهل تيواناكو ببراعتهم الهندسية والمعمارية الفائقة. لقد أتقنوا فن نحت وتركيب كتل حجرية
- ضخمة بدقة مذهلة، كما يتجلى في معالم أيقونية مثل "بوابة الشمس" ومعبد "كالاساسايا" وهرم
- "أكابانا".
كما طوروا أنظمة زراعية مبتكرة تُعرف بـ "الحقول المرتفعة" (Suka Kollus)، والتي سمحت لهم بزراعة المحاصيل في المناخ القاسي للمرتفعات وحمايتها من الفيضانات والصقيع، مما ضمن لهم تحقيق فائض غذائي ودعم عدد كبير من السكان.
#### **إعادة رسم خريطة النفوذ**
حتى هذا الاكتشاف، كانت النظرة الأكاديمية
السائدة تحصر النفوذ المباشر لحضارة تيواناكو في محيط بحيرة تيتيكاكا. وكان يُعتقد
أن تأثيرها في المناطق البعيدة، مثل أودية كوتشابامبا أو سواحل تشيلي، كان ذا
طبيعة ثقافية ودينية وتجارية غير مباشرة، يعتمد على شبكات التبادل ونشر الأفكار
بدلاً من السيطرة الإدارية المباشرة.
- لكن اكتشاف معبد ومستوطنة بهذا الحجم في أورورو يقلب هذه الفرضية رأسًا على عقب. وكما أوضح
- خوسيه كابريليس، فإن "مثل هذه الاكتشافات تكشف عن مجتمع معقد للغاية كان لديه تخطيط
- استراتيجي لتحديد موقع بهذه الخصائص وبنائه". إن وجود مركز بهذا الثقل على بعد مئات
- الكيلومترات من العاصمة يشير إلى وجود دولة منظمة وقوية قادرة على حشد الموارد والعمالة لتنفيذ
- مشاريع ضخمة في مناطق نائية، وفرض سيطرة سياسية وإدارية عليها.
لم يكن "بالاسباتا" مجرد مكان
للعبادة، بل كان له وظيفة استراتيجية مزدوجة. موقعه يجعله نقطة تحكم مثالية على
طرق القوافل التجارية التي تربط المرتفعات الغنية بالمعادن والمواشي (مثل حيوانات
اللاما والألباكا) بالمناطق المنخفضة الدافئة في كوتشابامبا، والتي كانت مصدرًا
للمحاصيل الحيوية مثل الذرة وأوراق الكوكا. وبهذا، كان المعبد بمثابة مركز لوجستي
وإداري ينظم حركة البضائع والأفراد، ويضمن تدفق الموارد الحيوية إلى قلب
الإمبراطورية.
#### **ما يكمن تحت الأرض آفاق المستقبل**
حتى الآن، لم تبدأ أعمال التنقيب الرسمية في
الموقع. ما نراه هو مجرد قمة جبل الجليد التي كشفت عنها التكنولوجيا عن بعد. إن
الإمكانيات التي يحملها هذا الموقع هائلة. يمكن أن تكشف الحفريات المستقبلية عن
تفاصيل دقيقة حول الهندسة المعمارية للمعبد، والتحف الدينية المستخدمة في الطقوس،
وبقايا عضوية محفوظة جيدًا في المناخ الجاف قد تخبرنا عن النظام الغذائي للسكان،
بالإضافة إلى أدوات وقطع فخارية يمكن أن تساعد في تحديد التسلسل الزمني الدقيق
للموقع وعلاقاته التجارية مع المناطق الأخرى.
- ومع ذلك، فإن الطريق إلى الكشف عن هذه الأسرار محفوف بالتحديات. أكد خوان كارلوس كورديرو،
- نائب وزير التراث البوليفي، أن الخطوة التالية تتطلب نهجًا حذرًا ومسؤولًا. يجب على وزارة الثقافة
- أولاً وضع تدابير وقائية صارمة لحماية الموقع من النهب والتلف البيئي. والأهم من ذلك، هو ضرورة
- إجراء عملية تشاور شاملة مع المجتمعات المحلية الأصلية التي تعيش في المنطقة
والتي تعتبر هذه المواقع جزءًا من تراثها وهويتها الحية. إن إشراكهم في عملية الحفظ والدراسة ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل هو ضروري لضمان نجاح المشروع على المدى الطويل.
#### ** صوت من الماضي لمستقبل البحث**
إن اكتشاف معبد "بالاسباتا" ليس مجرد
إضافة رقم جديد إلى قائمة المواقع الأثرية في بوليفيا. إنه لحظة فارقة تجبرنا على
إعادة تقييم واحدة من أعظم حضارات العالم القديم. لم تكن تيواناكو مجرد ثقافة
متمركزة حول بحيرة مقدسة، بل كانت قوة إقليمية ديناميكية ذات رؤية استراتيجية
وقدرة تنظيمية فائقة، امتد نفوذها عبر تضاريس متنوعة وصعبة.
فى الختام
بينما ينتظر العالم بفارغ الصبر بدء أعمال التنقيب، يظل هذا التل الصامت في أورورو شاهدًا على عظمة الماضي، ومصدر إلهام للمستقبل.
إنه يذكرنا بأن التاريخ ليس كتابًا مغلقًا، بل هو قصة مستمرة تتكشف
فصولها مع كل اكتشاف جديد، وأن تحت تراب جبال الأنديز لا تزال هناك أصداء لحضارات
تنتظر من يستمع إليها.