### **"أوافق": كيف تحولت النقرة الطقوسية إلى أخطر صفقة في العصر الرقمي**
![]() |
### **"أوافق": كيف تحولت النقرة الطقوسية إلى أخطر صفقة في العصر الرقمي** |
- كانت هذه الضغطة، لعقدين من الزمن، أشبه بتذكرة دخول سريعة إلى عوالم الإنترنت الممتعة
- تضحية بسيطة من وقتنا مقابل خدمة جديدة أو تطبيق مثير. لكن اليوم، لم تعد هذه النقرة مجرد إجراء
- روتيني، بل تحولت إلى توقيع على عقدٍ فاوستيّ جديد، عقد لا نبيع فيه أرواحنا للشيطان، بل نمنح فيه
- جوهر وجودنا الرقمي لأنظمة ذكاء اصطناعي غامضة وطموحة.
#### **المرحلة الأولى عصر التجاهل الحميد وشروطه غير المؤذية**
- كانت الصفقة الضمنية واضحة: نحن نمنحك بياناتنا الديموغرافية واهتماماتنا، وأنت يا "فيسبوك" أو
- "غوغل" تستخدمها لتعرض علينا إعلانات موجهة. كان القلق الأكبر يدور حول الخصوصية
- وتحديداً الخصوصية التجارية. هل ستعرف الشركات ما نشتريه؟ هل ستستخدم صورنا في حملات
- إعلانية دون إذن صريح؟ كانت هذه مخاوف مشروعة، لكنها بقيت في إطار مفهوم. كانت البيانات
- التي نقدمها تُستخدم لفهمنا كمستهلكين، لا لنسخنا كمبدعين ومفكرين.
- كانت هذه التجربة، التي أُطلق عليها "بند هيرودس"، دليلاً قاطعاً على اللامبالاة العامة، لكنها كشفت
- أيضاً عن أن المخاطر في ذلك الوقت كانت نظرية أكثر منها واقعية. ففي النهاية، لا يمكن لأي محكمة
- أن تفرض مثل هذا البند السخيف. كان العقد الرقمي هشاً، وكانت أسوأ عواقبه هي تلقي إعلان لحذاء
- رياضي كنت تبحث عنه للتو.
#### **الانقلاب النموذجي حين أصبح الذكاء الاصطناعي هو الشيطان الجديد**
ما تغير بشكل جذري لم يكن طول الشروط والأحكام
أو تعقيدها، بل قيمة ما نتخلى عنه. لقد أحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي ثورة في
مفهوم "البيانات". لم تعد بياناتنا مجرد سجلات لسلوكنا الاستهلاكي، بل
أصبحت المادة الخام التي يُبنى منها وعيٌ اصطناعي جديد.
- عندما توافق اليوم على شروط خدمة تستخدم الذكاء الاصطناعي، فأنت لا تمنحها فقط حق تحليل
- بياناتك، بل تمنحها حق استخدامها في "تدريب" نماذجها اللغوية والبصرية. كل بريد إلكتروني تكتبه
- كل مستند تحرره، كل صورة تصممها، كل محادثة تجريها، كل سطر من الأكواد البرمجية، يتحول
- إلى وقود يغذي هذه الأنظمة. إنها لم تعد تكتفي بمراقبة ما تفعل، بل أصبحت تتعلم "كيف" تفعل ذلك.
- تتعلم أسلوبك في الكتابة، ونبرة صوتك، وجمالياتك الفنية، ومنطقك في حل
المشكلات.
هنا يكمن الخطر الوجودي الجديد. الصفقة لم تعد "خصوصيتي
مقابل خدمة"، بل أصبحت "جوهري الإبداعي مقابل خدمة". الخوف لم يعد
من أن يعرف "مارك زوكربيرغ" عيد ميلادك، بل من أن يتمكن نظام ذكاء
اصطناعي من كتابة رواية بأسلوبك، أو تأليف مقطوعة موسيقية تشبه أعمالك، أو حتى
إنشاء "شبح رقمي" يتحدث وينتحل شخصيتك بعد فترة من الزمن. إنها عملية
امتصاص دائمة وغير قابلة للعكس. فبمجرد أن تصبح بياناتك جزءاً من نموذج تدريبي
ضخم، يستحيل استعادتها أو معرفة كيف ستُستخدم في المستقبل.
#### **قضية "وي ترانسفير" الصحوة الجماعية ولحظة الحقيقة**
كان هذا الخطر يبدو نظرياً للبعض، حتى جاءت قضية
منصة "وي ترانسفير" (WeTransfer) لتكون بمثابة جرس
إنذار مدوٍّ. هذه المنصة، التي بنى الفنانون والمصممون والكتاب والشركات سمعتها
على أساس الثقة والأمان في نقل ملفاتهم الخاصة والسرية، أعلنت فجأة تحديث شروطها
لتسمح لنفسها باستخدام محتوى المستخدمين لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
- كان رد الفعل سريعاً وعنيفاً. ولأول مرة، لم تكن الاحتجاجات مقتصرة على خبراء التقنية والناشطين
- في مجال الخصوصية. انتشر الغضب كالنار في الهشيم عبر "إنستغرام" و"تويتر" ومجموعات
- "واتساب". لماذا؟ لأن المستخدمين أدركوا على الفور التناقض الصارخ. لم تكن هذه بيانات تصفح
- عادية، بل كانت أعمالهم الفنية، ومخططاتهم التجارية، ومسودات رواياتهم، أي خلاصة إبداعهم
- وجهدهم. كانت الفكرة مرعبة: أن تستخدم المنصة التي أؤتمنها على أثمن ما أملك، هذا المحتوى
- لتدريب نظام قد ينافسني أو يقلل من قيمة عملي في المستقبل.
أمام هذه الموجة العارمة من الرفض، تراجعت "وي
ترانسفير" بسرعة، وأصدرت بياناً توضيحياً ألقت فيه باللوم على "سوء
الفهم" والتباس الصياغة. لكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً. لم يكن هناك أي
سوء فهم، بل كان هناك "فهم عميق" ومفاجئ من قبل الجمهور. لقد كانت تلك
هي اللحظة التي تحول فيها الخطر المجرد إلى حقيقة ملموسة، وأدرك فيها المستخدم
العادي أن النقرة على "أوافق" قد تكلفه مصدر رزقه وهويته الإبداعية.
#### **مستقبل الموافقة نحو وعي رقمي جديد**
إن ما حدث مع "وي ترانسفير" ليس حادثة
معزولة، بل هو بداية لعهد جديد من الوعي الرقمي. لقد أجبرنا الذكاء الاصطناعي، بكل
غموضه ومخاطره، على التوقف أخيراً والتفكير في قيمة ما نمنحه بهذه السهولة. لم نعد
مجرد مستخدمين سلبيين، بل أصبحنا ندرك أننا منتجو القيمة الحقيقية في هذا الاقتصاد
الرقمي الجديد.
- وهذا الوعي يفرض مسؤوليات جديدة على عاتق الشركات. لم يعد مقبولاً إخفاء البنود الخطيرة في
- طيات نصوص قانونية طويلة. يجب أن تكون الموافقة "مستنيرة" و"صريحة" و"مجزأة". يجب أن
- يكون للمستخدم الحق في أن يختار بوضوح: "أوافق على استخدام بياناتي لتحسين الخدمة، ولكني لا
- أوافق على استخدامها لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي".
فى الختام
ربما يكون الذكاء الاصطناعي قد قدّم لنا خدمة جليلة دون أن يقصد. لقد أجبرنا على قراءة العقد الذي كنا نوقعه بعيون مغلقة. النقرة على "أوافق" لم تعد نهاية المحادثة، بل أصبحت بدايتها. إنها بداية عصر يطالب فيه المستخدمون بحقوقهم الرقمية، ليس فقط كـ "مستخدمين" للخدمات، بل كـ "مبدعين" و"مشاركين" في بناء المستقبل الرقمي.
والشركات التي ستنجح هي تلك التي ستستمع لهذا الصوت الجديد، وتحترم قيمة الجوهر
الإنساني الذي أصبح الآن أغلى سلعة في العالم.