## هل يخدم ضبط النفس في سعادة الإنسان؟ رحلة استكشافية بين التضحية والرضا
في عالمٍ يُغري بالمتع السريعة والإشباع الفوري، يُصبح
ضبط النفس تحدياً صعباً يتطلب جهداً ووعياً. فبينما يشدنا سحرُ المتعة اللحظية إلى
رحابِ الاستمتاع، تُطالعنا نصائحٌ متكررةٌ تُلّحّ على ضرورة ضبط النفس والتضحية
بالشهوات من أجل سعادةٍ دائمة. لكن هل حقاً يخدم ضبط النفس في سعادة الإنسان؟ هل
يترجم إلى إنجازاتٍ تُثمرُ عن الرضا، أم يُحَوّلُ الحياة إلى سلسلةٍ من التنازلات
المُجهدة؟
تُثيرُ هذه المسألةُ جدلاً مُستمرّاً،
إذ يُرى أن ضبط
النفس مُتضادٌّ مع مفهوم السعادة، فبينما نربطُ السعادةَ بالراحة والاسترخاء
والابتعاد عن الضغوط، تُمثّلُ ضبط النفسُ جهداً مُتواصلًا ومقاومةً للنزوات. ويُعتقد
أن الأفرادَ الذين يُمارسون ضبط النفس بشكلٍ مُفرطٍ يُصبحون أكثرَ تركيزًا على
الواجباتِ وأقلَّ استعدادًا للانغماسِ في متعِ الحياة.
لكن الحقيقةُ أن ضبط النفس
لا يُساوي
دائمًا إنكارَ النفسِ ورغباتها، بل يعني الاستثمارَ في اللحظةِ الحاليةِ من أجل
مكافأةٍ مُستقبليةٍ أكبر. ففي حين أن الاضطرارَ إلى التخلي عن متعةٍ فوريةٍ من أجل
هدفٍ بعيد المدى قد لا يكون تجربةً عاطفيةً مُمتعةً، فإن التأثيراتِ الإيجابيةَ
لضبط النفسِ في حياتنا تُصبحُ واضحةً مع مرورِ الوقت.
فأولئك الذين يُمارسون ضبط النفس بشكلٍ مُنظمٍ يُصبحون
أقلَّ عرضةً للوقوعِ في فخّ الرغباتِ المُشكلة، وبالتالي أقلَّ عرضةً للضيقِ
العاطفيِ الذي يُرافقُ مثلَ هذهِ المقايضاتِ.
فيُصبحون أكثرَ نجاحًا في إدارةِ الأهدافِ المتناقضةِ من خلالِ تفضيلِ
الهدفِ الذي يحققُ النتائجَ الأفضلَ، وأقلَّ اندفاعًا بالحاجةِ إلى الإشباعِ
الفوري أو المتعة.
وعلى المستوىِ السلوكي
، تُعتبرُ سمةُ ضبط النفسِ TSC سمةً أساسيةً تشكلُ جوهرَ
الشخصيةِ أثناءَ تطورها. فقد أظهرت
الأبحاثُ بشكلٍ مُستمرٍ أن ارتفاعَ هذهِ السمةِ يُرتبطُ بنتائجَ أكثرَ إيجابيةً في
الحياة، مثلَ الإنجازاتِ الأكاديميةِ الأعلى، والصحةِ الأفضل، والمزيدِ من النجاحِ
في العلاقاتِ الشخصيةِ والتعاملِ مع الآخرين.
وهكذا، تمت الإشادةُ بضبط النفسِ باعتبارهِ سمةً تطوريةً لضمانِ التكيفِ
والبقاء.
وتُظهرُ الدراساتُ الحديثةُ
علاقةً وثيقةً بين ضبط النفسِ وتنوعٍ واسعٍ من النتائجِ
الإيجابيةِ في الحياة، فأصحابُ هذهِ
السمةِ يتمتعون بصحةٍ أفضلَ، وعلاقاتٍ أفضلَ، ومالٍ أكثرَ، ووظائفَ أفضلَ. كما أنهم أقلَّ عرضةً لمشكلاتِ الإفراطِ في
الأكلِ، والإنفاقِ، والتدخينِ، وإدمانِ الكحولِ أو المخدراتِ، والتسويفِ، والوقوعِ
ضحيةً للمشتتاتِ.
ولكن ماذا عن علاقةِ ضبط النفسِ بالسعادة؟ هل يُمكن أن يكون مُحفّزًا للرضا والبهجة؟
يُمكنُ فهمُ تأثيرِ ضبط النفسِ على السعادةِ من خلالِ
نظريةِ التركيزِ التنظيمي. فمن خلالِ فهمِ
كيفيةِ استخدامِ الناسِ لخططهمِ وأهدافهمِ،
تُظهرُ هذهِ النظريةُ وجودَ اتجاهينِ مُنفصلينِ ومُستقلّينِ للتنظيمِ
الذاتي: التركيزُ على التقدمِ والترقيةِ (المحفزاتُ والمكافآت) أو التركيزُ على
التجنّبِ والوقايةِ (المعيقاتُ والأخطار).
فمن خلالِ النظامِ الأول، يُنظرُ إلى تحقيقِ الأهدافِ
باعتبارهِ وسيلةً لإشباعِ الحاجةِ إلى الطموحِ أو الإنجاز، بينما يُنظرُ إلى الهدفِ في النظامِ الثانيِ
باعتبارهِ مسؤوليةً أو واجبًا.
وتشيرُ النتائجُ إلى أن الأفرادَ الذين لديهم سمةُ ضبط
النفسِ TSC أعلى هم أكثرُ
سعادةً، ربما لأنهم أكثرُ تركيزًا على التقدمِ من أجل الحصولِ على مكاسبَ
إيجابيةٍ، وبالتالي تقويةِ المزيدِ من السلوكياتِ المُوجهةِ نحوَ الهدفِ الأساسي. وعادةً ما لا يهتمُّ أولئكَ الذين يفكرونَ
بهذهِ الطريقةِ بالخسائرِ، بل يميلونَ إلى
تحديدِ طرقٍ مبتكرةٍ لتحقيقِ تقدمٍ نحوَ أهدافهمِ مدفوعينَ بالطموحاتِ، وهم بذلك
أقلَّ تركيزًا على الوقايةِ والخوفِ والخسائرِ والأخطاءِ، وبالتالي تقليلِ
السلوكياتِ المُوجهةِ نحوَ التجنّبِ، مع التركيزِ على الانشغالِ الكاملِ
والمسؤولياتِ والواجبات.
ولكن، هل يعني ذلك أن الأفرادَ الذين يُمارسون ضبط النفسِ بشكلٍ مُستمرٍ يُحرمون أنفسهم من المتعِ والبهجة؟
الحقيقةُ أن سمةَ ضبط النفسِ لا تُشيرُ إلى الحرمانِ
المُستمرّ، بل إلى قدرةِ الفردِ على إدارةِ توقعاتهِ وتحقيقِ توازنٍ بين الرغباتِ
والتطلعاتِ. فأصحابُ سمةِ ضبط النفسِ لا
يضيّعونَ الوقتَ في خوضِ معاركَ داخليةٍ حولَ ما إذا كان بإمكانهمِ فعلَ أمرٍ ما
أم لا. أي أنهم يتجنّبونَ الرغباتِ
المُشكلةَ والصراعاتِ ويُحافظونَ على التوازنِ من خلالِ تنظيمِ بيئتهمِ
واختيارِهمِ للأنشطةِ التي تُناسبُ أهدافهمِ.
ولكن، كيف يُمكنُ لضبط النفسِ أن يُساهمَ في سعادةِ الإنسان؟
إنّ ضبط النفسَ يُساهمُ في سعادةِ الإنسانِ من خلالِ
مساعدتهِ على تحقيقِ أهدافهِ، والحصولِ
على الرضاِ عن حياتهِ، وتقليلِ الشعورِ
بالندمِ والقلقِ، والاستمتاعِ بمشاعرَ
إيجابيةٍ مثلَ الإنجازِ والثقةِ بالنفسِ. ففي
حين أن ضبط النفسِ قد يتطلبُ بعضَ التضحيةِ في الوقتِ الحاضر، فإنهُ يفتحُ الأبوابَ لِمُستقبلٍ أفضلَ مليءٍ
بالإنجازاتِ والرضا.
يُمكنُ تشبيهُ ضبط النفسِ بسفينةٍ تبحرُ في بحرٍ متلاطمِ
الأمواجِ، تُحاولُ التوجّهَ نحوَ شاطئِ
الأمانِ، فكلّما زادتِ قدرةُ السفينةِ على
ضبطِ مسارهاِ ومقاومةِ الرياحِ والعواصفِ،
أصبحتِ أقربَ إلى وجهتهاِ المقصودة.
وكذلك، فإنّ ضبط
النفسَ يُساهمُ في توجّهِ الإنسانِ نحوَ أهدافهِ،
ويُساعدُهُ على مقاومةِ التشتيتِ والانحرافاتِ، واختيارِ المسارِ الذي يؤديِ إلى السعادةِ
والرضا.
وهكذا، تُصبحُ
سمةُ ضبط النفسِ TSC أداةً قويةً تُساهمُ في تحويلِ الحياةِ من
سلسلةٍ من التنازلاتِ المُجهدةِ إلى رحلةٍ مُثمرةٍ مليئةٍ بالإنجازاتِ والرضا.
ولكن، يُصبحُ من
الضروريِ فهمُ أن ضبط النفسَ ليسَ غايةً في حدّ ذاتها، بل يُعدُّ وسيلةً لتحقيقِ أهدافٍ أكبرَ وأسمى. فلا ينبغيِ أن يُحرمَ الإنسانُ من الاستمتاعِ
بالمتعِ البسيطةِ في حياتهِ، بل يجبُ أن
يجدَ التوازنَ بين ضبطِ النفسِ والتمتعِ بالحياهِ.
وهكذا، تُصبحُ
سمةُ ضبط النفسِ TSC أداةً مُهمةً في رحلةِ الإنسانِ نحوَ السعادةِ
والرضا، فكلّما زادتِ قدرةُ الفردِ على
ضبطِ نفسهِ، أصبحَ أقربَ إلى تحقيقِ
أهدافهِ، وإنجازِ مهماتهِ، والاستمتاعِ بمشاعرَ إيجابيةٍ مثلَ الرضاِ عن
نفسهِ، والتقدّمِ في حياتهِ، وتحقيقِ النجاحِ.
ولكن، يُصبحُ من
الضروريِ التأكيدُ على أن سمةَ ضبط النفسِ ليستِ هيَ السبيلُ الوحيدَ لتحقيقِ
السعادة، فإنّ العديدَ من العواملِ
الأخرىِ تلعبُ دورًا مُهمًا في تحقيقِ الرضاِ عن الحياة. فمن المهمِّ التركيزُ على بناءِ علاقاتٍ قويةٍ
مع الآخرين، وممارسةِ هواياتٍ تُسعدُ
النفسَ، وتوفيرِ بيئةٍ داعمةٍ للنموّ
والتطور، والتعلمِ من التجاربِ، وتقبلِ الذاتِ، والإيمانِ بقيمةِ الحياةِ.