## ماذا وراء معجزة إيرلندا الاقتصادية؟
احتلت جمهورية إيرلندا المركز الأول في قائمة
أغنى دول العالم متجاوزة لوكسمبورغ وقطر وغيرهما مطلع العام الماضي 2023، والمعيار
في ترتيب الدول هو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لذا فالدول الأقل سكاناً
والأصغر ذات الاقتصاد القوي تتقدم في القائمة.
تراجعت إيرلندا مطلع هذا العام 2024، لتحتل
المرتبة الثانية على قائمة أغنى دول العالم متخلفة عن لوكسمبورغ.
من الواضح أن ما عرف بوصف "المعجزة
الاقتصادية الإيرلندية"، الذي جعلها تنتقل من أفقر دول أوروبا على مدى نحو
قرنين إلى أغنى دول القارة في العقد الأخير من القرن الماضي ما زال مستمراً، على
رغم التغيرات التي يشهدها العالم واقتصاده منذ الأزمة المالية العالمية.
## ماذا وراء معجزة إيرلندا الاقتصادية؟
في السنوات الخمس الأخيرة
من
القرن الماضي (من 1995 إلى 2000) حقق الاقتصاد الإيرلندي نسبة نمو سنوي عند 9.4 في
المئة، وعلى مدى الفترة ما بين 1987 و2007 حقق الناتج المحلي الإجمالي للبلاد
نمواً إجمالياً بنسبة 229 في المئة.
### بيانات ومقارنات
لتوضيح القفزة التي حققها الاقتصاد الإيرلندي
منذ نهاية القرن الماضي نذكر ببعض الأرقام المقارنة:
* **عام 1988:** كان نصيب الفرد من الناتج
المحلي الإجمالي في إيرلندا 11063 دولاراً، ومثل ذلك نحو ثلثي الرقم لبريطانيا (نسبة
70 في المئة)، ونحو نصف نصيب الفرد في الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي
(نسبة 52 في المئة). وكان معدل البطالة في إيرلندا عند نسبة 16.2 في المئة مقابل
نسبة 8.5 في المئة ببريطانيا و5.5 في المئة بأميركا، وفي ذلك الوقت بلغت نسبة
الدين العام الإيرلندي من الناتج المحلي الإجمالي 85 في المئة مقابل 60 في المئة
لأميركا و37 في المئة لبريطانيا.
* **بعد أكثر من ثلاثة عقود:** نجد أن نصيب
الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إيرلندا عند 82885 دولاراً، بينما في بريطانيا
هو عند 45038 دولاراً، أما معدلات البطالة فتكاد تكون متساوية في البلدين بأعلى
قليلاً من نسبة أربعة في المئة مع فارق طفيف. وبينما تزيد نسبة الدين العام للناتج
المحلي الإجمالي في إيرلندا قليلاً على 42 في المئة، نجد أن النسبة في بريطانيا
تقترب من 100 في المئة.
### كيف تحققت المعجزة؟
حينما انضمت إيرلندا إلى الاتحاد الأوروبي منتصف
سبعينيات القرن الماضي كانت من بين أفقر دول أوروبا لنحو قرنين من الزمن، وكانت
سياساتها الاقتصادية في وضع سيئ واعتمدت في تجارتها مع أوروبا قبل انضمامها إلى
الاتحاد على بريطانيا كمنفذ لها على السوق المشتركة.
منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بدأت مشوار
تطور اقتصادي احتاج إلى أكثر من عقد ليؤتي أكله، واستفادت من برامج الاتحاد
الأوروبي ومساعدات المفوضية الأوروبية ودعمها الاقتصادات الأضعف في دول الاتحاد.
لكن إيرلندا بدأت في ستينيات القرن الماضي
بتطوير التعليم وزيادة الاستثمار في رأس المال البشري. وبعد ذلك نشطت الهجرة من
إيرلندا للكفاءات الماهرة للعمل في الشركات الأجنبية في الدول الأخرى. وحين بدأت
النهضة الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي، عاد كثير من المغتربين الإيرلنديين
إلى البلاد محملين بالخبرات إلى جانب تعليمهم الأساس ليعملوا في الشركات العالمية
التي قدمت إلى إيرلندا.
أسهم ذلك ليس فقط في القضاء على مشكلة البطالة
إنما في زيادة معدلات الإنتاجية في الاقتصاد الإيرلندي، فضلاً عن زيادة الإنفاق
الاستهلاكي الذي أضاف بقوة لنمو الناتج المحلي الإجمالي. وفتحت إيرلندا أبوابها
للقادمين من دول الاتحاد الأوروبي مما أسهم أيضاً في انتعاش اقتصادها بصورة كبيرة،
فضلاً عن ارتفاع دخل الخزانة العامة من الضرائب وتطور السوق العقارية وغيرها من
قطاعات الاقتصاد.
### عوامل النمو
من العوامل التي أسهمت في المعجزة الاقتصادية
الإيرلندية، إلى جانب استفادتها من عضوية الاتحاد الأوروبي وبرامج الدعم من
بروكسل، خفض الضريبة على الشركات وانخفاض معدلات الأجور وزيادة الاستثمار الأجنبي
المباشر، واستقرار الاقتصاد الوطني وانضباط سياسات الموازنة.
بنهاية تسعينيات القرن الماضي وعلى مدى عقد من
الزمن إلى منتصف العقد الأول من القرن الحالي أصبحت إيرلندا بيئة اقتصادية جاذبة
لشركات كبرى، بخاصة الشركات الأميركية، وأسهم النمو الاقتصادي للولايات المتحدة في
تلك الفترة على استفادة إيرلندا بصورة كبيرة.
وشجعت هيئة الاستثمار الإيرلندية وغيرها من
الجهات الحكومية شركات تكنولوجيا كبرى مثل شركات "ديل" و"إنتل"
و"غيتواي" لنقل عملياتها في أوروبا إلى إيرلندا، مستفيدة من وصول البلاد
للسوق المشتركة مع انخفاض الضرائب على الشركات وتوفر العمالة المؤهلة الماهرة التي
تتحدث الإنجليزية.
يختلف الاقتصاديون في مسألة ضرائب الشركات
المنخفضة وما إذا كانت سبباً في تلك النهضة الاقتصادية أم نتيجة لها. ويمكن ببساطة
استخلاص أن سياسات الحكومات الإيرلندية على مدى العقود الأخيرة وإن بدأت بخفض
ضرائب الشركات عما هو مطبق في بقية دول أوروبا لجذب الأعمال والشركات الكبرى، إلا
أنها تمكنت من إبقائها منخفضة مع تدفق الاستثمار الأجنبي ونمو الناتج المحلي
الإجمالي، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي بما جعل الخزانة العامة قادرة بسهولة على
تحمل خفض ضرائب الشركات والأعمال.
### السياسات الاقتصادية
واصلت إيرلندا سياسات تشجيع إسهام القطاع الخاص
في الاقتصاد وتوصلت الحكومات إلى تفاهمات مع نقابات العمال لضبط نمو الأجور، في
وقت حررت سوق العمل بصورة تغري الاستثمار الأجنبي المباشر.
وفي عام 1999 وضعت منظمة التنمية والتعاون
الاقتصادي إيرلندا بين أفضل ثلاث دول من جهة الانفتاح الاقتصادي، بمعنى تطوير
قوانين ولوائح وقواعد الأعمال بالصورة التي تقلل تدخل الدولة في عمل الشركات
وتوسيع مساحة حرية القطاع الخاص.
كان لإقامة مركز الخدمات المالية العالمي في
دبلن دور مهم في توفير وظائف عالية القيمة في مجالات مختلفة من المحاسبة والمراجعة
إلى الإدارة المالية والخدمات القانونية.
وتضافر زيادة المهارات في سوق العمل وارتفاع
معدلات الإنتاجية مع سياسات مالية متزنة في ما يتعلق بالضرائب والإنفاق الاستثماري
وعلى الخدمات الأساس.
كان للصناديق الأوروبية التي تقدم الدعم لدول
الاتحاد دور مهم أيضاً في دعم تلك السياسات الإيرلندية بصورة كبيرة. وعلى مدى
العقد الأخير من القرن الماضي والأول من هذا القرن ضخ الاتحاد الأوروبي مزيداً من
رأس المال الاستثماري في الاقتصاد الإيرلندي. وساعد ذلك الحكومات الإيرلندية على
تطوير برامج التعليم والتدريب وغيرها من سبل الاستثمار في رأس المال البشري
للبلاد، فضلاً عن مشروعات البنية التحتية والصناعة.
### الأمن والسلام
كان لعملية السلام في إيرلندا الشمالية والتوصل
إلى اتفاقية الجمعة الطيبة عام 1998 مع الحكومة البريطانية دور مهم أيضاً في
مساعدة الجمهورية الإيرلندية على الالتفات للتنمية الاقتصادية بعيداً من التوترات
الأمنية.
ووفر الأمن والسلام في إيرلندا الشمالية مناخاً
ملائماً لعمل الحكومات الإيرلندية على تطوير الاقتصاد.
هذا على الصعيد المحلي والاقليمي. أما عالمياً
فقد استفادت إيرلندا بصورة كبيرة من تطور العولمة لتصبح جزءاً مهماً من شبكة سلاسل
الإمداد العالمية، علاوة على أن تعديل القوانين بما يسمح للمهاجرين من دول الاتحاد
الأوروبي الجديدة بالقدوم إلى إيرلندا أسهم أيضاً في نمو الناتج المحلي الإجمالي
للبلاد بدءاً من عام 2004.
### استنتاج
وأسهمت عوامل متعددة في تحقيق المعجزة
الاقتصادية الإيرلندية، لكن يظل الأساس فيها هو رأس المال البشري، أي الإيرلنديون
أنفسهم.
صحيح أنهم استفادوا من الانضمام إلى الاتحاد
الأوروبي والوصول إلى السوق الأوروبية المشتركة ومن الرواج الاقتصادي الأميركي ومن
السلام البريطاني في إيرلندا الشمالية.
لكن التركيز على التعليم والتدريب وتطوير
المهارات البشرية، ومن ثم ارتفاع معدلات الإنتاجية كان العامل الأساس والأهم.
يليه أيضاً السياسات المالية والاقتصادية
للحكومات في دبلن، أي مرة أخرى توجهات السياسيين الإيرلنديين أنفسهم.