## من كواليس الحرب الباردة إلى أسرار برج لندن: معرض استثنائي يكشف كنوزاً من أرشيف MI5 السري
في خطوة غير مسبوقة
ترفع الستار عن عالم طالما اكتنفه الغموض والسرية، يفتح الأرشيف الوطني البريطاني
في كيو، جنوب غرب لندن، أبوابه أمام معرض استثنائي يحمل عنوان "أم آي 5: أسرار
رسمية" (MI5: Official Secrets). لا يُعد هذا المعرض مجرد عرض لمقتنيات تاريخية، بل هو رحلة عميقة في
دهاليز جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني الشهير "MI5"، مقدمًا للجمهور فرصة نادرة للاطلاع المباشر على وثائق ظلت لعقود
طي الكتمان، وقطع أثرية تجسسية تروي قصصًا حقيقية تتجاوز في غرابتها وتشويقها أكثر
سيناريوهات أفلام الجاسوسية خيالاً.
![]() |
## من كواليس الحرب الباردة إلى أسرار برج لندن: معرض استثنائي يكشف كنوزاً من أرشيف MI5 السري |
يمثل هذا التعاون
الفريد بين جهاز الاستخبارات والأرشيف الوطني تحولاً لافتًا نحو الشفافية، وهو ما
أكده السير كين ماكالوم، المدير العام الحالي لجهاز MI5، بقوله إن المعرض يعكس
"التزام الجهاز المستمر بالشفافية كلما كان ذلك ممكناً". في عالم غالبًا
ما يُنظر إليه من خلال عدسة الروايات الخيالية لشخصيات مثل جورج سمايلي أو جاكسون
لامب، يسعى المعرض لتقديم لمحة عن الواقع المعقد والمضني لعمل الاستخبارات، مسلطًا
الضوء على "أناس عاديين يبذلون جهوداً استثنائية للحفاظ على أمن بلدنا"،
على حد تعبير السير ماكالوم. الأهم من ذلك، أن هذا الالتزام بالانفتاح لا يقتصر
على "اللحظات المجيدة"، بل يمتد ليشمل الاعتراف بالأخطاء والإخفاقات،
مما يعزز المصداقية والفهم العام لعمل الجهاز.
**ظلال الحرب الباردة حقيبة بورغيس و"خماسي كامبريدج"**
من بين أبرز القطع التي تجذب الأنظار وتثير الفضول، تبرز حقيبة السفر الجلدية المنقوش عليها الأحرف الأولى لاسم "غاي بورغيس"،
أحد أشهر جواسيس "خماسي كامبريدج". هذه
الحقيبة ليست مجرد قطعة أثرية، بل هي شاهد صامت على لحظة هروب دراماتيكية في تاريخ
الحرب الباردة. ترك بورغيس، الدبلوماسي البريطاني الذي عمل كعميل مزدوج للاتحاد
السوفيتي، حقيبته هذه في نادي الإصلاح (Reform
Club) المرموق بلندن في مايو 1951، قبل أن يفرّ على عجل
إلى موسكو برفقة زميله الجاسوس دونالد ماكلين، خوفًا من انكشاف أمرهما الوشيك.
- إلى جانب الحقيبة، يُعرض جواز سفر بورغيس البريطاني للمرة الأولى، ليضيف بعدًا شخصيًا
- وملموسًا لقصة هذا العميل الذي هزّ أركان المؤسسة البريطانية. كان بورغيس جزءًا من شبكة
- "خماسي كامبريدج"، وهي مجموعة من خريجي جامعة كامبريدج المرموقة تم تجنيدهم من قبل
- المخابرات السوفيتية في ثلاثينيات القرن الماضي، ونجحوا في اختراق أعلى مستويات الحكومة
- والمخابرات البريطانية، ونقلوا معلومات حساسة للغاية إلى موسكو خلال الحرب العالمية الثانية
ومستهل الحرب الباردة. المفارقة المثيرة للجدل هي أنه لم يُحاكم
أي من أعضاء هذه الشبكة الخمسة بتهمة التجسس، مما يترك فصلاً غامضًا في تاريخ
القضاء والاستخبارات البريطاني. قصة بورغيس ورفاقه لا تزال تثير النقاش والجدل حول
الولاء والخيانة والأيديولوجيا في حقبة الصراع بين الشرق والغرب.
**أسرار الحبر السري ليمونة مولر وبرج لندن**
.jpeg)
هنا، تظهر قطعة تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها
تحمل قصة تجسس كلاسيكية ومصيرًا مأساويًا: ليمونة عمرها 110 أعوام! هذه الليمونة
كانت دليل الإدانة الرئيسي ضد الجاسوس الألماني كارل هانز لودي (المشار إليه في
النص الأصلي خطأً باسم كارل مولر أحيانًا، لكن القصة تعود للودي الذي أُعدم في 1914،
بينما مولر أُعدم في 1915 بقصص مشابهة لاستخدام الحبر السري، مما يعكس شيوع
التقنية). كان الجاسوس يستخدم عصير الليمون كحبر سري بسيط وفعال لكتابة رسائل غير
مرئية تحتوي على معلومات استخباراتية حول تحركات القوات البريطانية. يمكن كشف هذه
الرسائل المخفية ببساطة عن طريق تسخين الورقة، مثلاً بتمرير مكواة ساخنة فوقها،
مما يؤدي إلى أكسدة الحامض وجعل الكتابة ظاهرة.
- عندما تم القبض على الجاسوس، عُثر على هذه الليمونة في جيب معطفه، لتكون دليلاً قاطعًا على
- أنشطته التجسسية. لم تكن نهايته أقل دراماتيكية؛ فقد حُكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص داخل أسوار
- برج لندن التاريخي عام 1915 (أو 1914 في حالة لودي)، ليصبح أحد أوائل الجواسيس الذين يلقون
- هذا المصير في الحرب العظمى. هذه الليمونة البسيطة ترمز إلى بدايات التجسس الحديث وأساليبه
- البدائية، لكن الفعالة، وتُذكّر بالثمن الباهظ الذي
قد يدفعه العملاء في سبيل خدمة بلادهم أو خيانتها.
**الجاسوس في القصر أنتوني بلانت ورد فعل الملكة**
بما في ذلك
العائلة المالكة البريطانية. تتضمن المعروضات رسالة بالغة الأهمية تكشف كواليس
الإبلاغ عن أن أنتوني بلانت، المؤرخ الفني المرموق والمستشار الفني الخاص للملكة إليزابيث
الثانية (Surveyor of the Queen's Pictures)، كان في الواقع عميلاً سوفياتياً وعضواً
آخر في شبكة "خماسي كامبريدج".
- الرسالة، التي لم تعرض للعامة من قبل، توثق كيف قام السكرتير الخاص للملكة بإبلاغها بهذا
- الاكتشاف الصادم. المثير للدهشة هو رد فعل الملكة، الذي وُصف في الرسالة بأنه كان "غاية في
- الهدوء ومن دون أية مفاجأة". هذا الهدوء الملكي في مواجهة خبر من هذا العيار الثقيل يثير تساؤلات
- حول ما إذا كانت هناك شكوك سابقة، أو ربما يعكس رباطة جأش استثنائية. قصة بلانت، الذي مُنح
- حصانة من الملاحقة القضائية مقابل اعترافه الكامل في عام 1964 (ولم يُكشف أمره علنًا إلا في عام
- 1979)، تسلط الضوء على التعقيدات الأخلاقية والسياسية التي أحاطت بقضايا التجسس خلال الحرب
- الباردة، وكيف تم
التعامل مع الاختراقات حتى داخل الدائرة المقربة من العرش.
**ما وراء القضايا الشهيرة أدوات وتقنيات**

لا يقتصر المعرض على قصص الجواسيس المشهورين، بل يقدم أيضًا بانوراما أوسع لتطور عمل MI5 وأدواته عبر الزمن.
فمن بين القطع
العشرين التي أعارها الجهاز للمعرض، يمكن للزائر مشاهدة أول كاميرا استخدمها جهاز
الاستخبارات البريطاني، وهي قطعة تكنولوجية بدائية بمعايير اليوم، لكنها كانت
متطورة في وقتها وتمثل الخطوات الأولى في استخدام التصوير لأغراض التجسس وجمع
المعلومات.
- كما يُعرض مفتاح يعود لفرع مكتب الحزب الشيوعي البريطاني في وستمنستر، وهو يرمز إلى جهود
- MI5 المستمرة في مراقبة ومكافحة ما كان يُعتبر تهديدًا داخليًا خلال فترة الحرب الباردة وما قبلها.
- وينتقل المعرض إلى حقب أحدث، حيث يعرض مقتنيات تتعلق بالصراع في إيرلندا الشمالية، مثل
- قنبلة هاون تابعة للجيش الجمهوري الإيرلندي الموقت (PIRA)، ومجسم مُعاد بناؤه لقنبلة مبتكرة تم
- تصنيعها باستخدام كاميرا فورية وزجاجة، مما يعكس التحديات المتغيرة التي واجهها الجهاز في
- مجال مكافحة الإرهاب والتكيف مع تكتيكات الخصوم المتطورة.
**دعوة للفهم والتأمل**
معرض "أم آي 5: أسرار رسمية" هو أكثر من مجرد عرض لمخلفات الماضي؛ إنه دعوة للتفكير في طبيعة عمل الاستخبارات،
دورها في حماية الأمن القومي، والتحديات الأخلاقية والقانونية التي
تواجهها. من خلال تقديم هذه الوثائق والقطع الأثرية للجمهور، يتيح المعرض فرصة
فريدة لفهم تاريخ بريطانيا الحديث من منظور مختلف، منظور الظل الذي غالبًا ما يبقى
بعيدًا عن أعين العامة.
![]() |
## من كواليس الحرب الباردة إلى أسرار برج لندن: معرض استثنائي يكشف كنوزاً من أرشيف MI5 السري |
إن قرار MI5 بالمشاركة في هذا المعرض وتقديم هذه المواد النادرة يعكس رغبة في بناء جسور من الثقة مع الجمهور، وإظهار أن تاريخ الجهاز، بكل تعقيداته ونجاحاته وإخفاقاته، هو جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني.
الختام
إنها
فرصة للتعلم عن الأفراد الذين عملوا في الخفاء، والأدوات التي استخدموها،
والقرارات الصعبة التي اتخذوها في سبيل حماية بلدهم، مع الاعتراف بأن الواقع
غالبًا ما يكون أقل بريقًا وأكثر تعقيدًا من عالم الجاسوسية السينمائي. في نهاية
المطاف، يقدم المعرض نافذة ثمينة على عالم مغلق، مما يسمح بفهم أعمق للتاريخ ويشجع
على النقاش حول دور أجهزة الاستخبارات في المجتمعات الديمقراطية اليوم.