**أحمد زكي: رحلة المعاناة والإبداع في تجسيد شخصية طه حسين**
يُعد الفنان الراحل أحمد زكي أحد أبرز أيقونات
التمثيل في تاريخ السينما والتلفزيون العربي، فنان تميز بقدرته الفائقة على التقمص
والولوج إلى أعماق الشخصيات التي يجسدها، تاركًا بصمات لا تُمحى في وجدان
المشاهدين. ومن بين الأدوار الخالدة التي قدمها، يبرز دوره في مسلسل "الأيام"،
حيث جسد شخصية عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين. لم تكن رحلة زكي نحو هذا الدور
مفروشة بالورود، بل كانت محفوفة بالتحديات والمقاومة، وهو ما كشف عنه في إحدى
لقاءاته، مقدمًا لنا دروسًا في الإصرار، والشغف، والفهم العميق لفن التمثيل.
![]() |
**أحمد زكي: رحلة المعاناة والإبداع في تجسيد شخصية طه حسين** |
**بداية غير متوقعة وقرار جريء**
بدأت القصة بشكل مفاجئ، فعقب عودته من رحلة عمل، وجد زكي سيناريو مسلسل "الأيام" ينتظره. المفاجأة الأكبر كانت عندما أُبلغ في أروقة التلفزيون أنه هو من سيقوم بدور طه حسين.
- كان هذا الإعلان بمثابة صدمة ودهشة، خاصة وأن الفنان القدير محمود ياسين كان قد قدم الشخصية
- بنجاح باهر في فيلم "قاهر الظلام"، وحقق الفيلم صدى واسعًا. وأمام هذا الإرث الثقيل، كان على
- زكي أن يتخذ قرارًا حاسمًا.
علم زكي أن المخرج يحيى العلمي قد عرض الدور على
نجوم كبار آخرين مثل نور الشريف وعزت العلايلي، لكنهما اعتذرا، ربما لشعورهما بأن
محمود ياسين قد "أحرق الموضوع" بتقديمه المميز. وأمام هذا الوضع، قرر
صناع العمل البحث عن وجه جديد، فوقع الاختيار على أحمد زكي. وبدلاً من الاستسلام
للضغط أو محاولة تقليد الأداء السابق، اتخذ زكي قرارًا جريئًا برفض مشاهدة فيلم
محمود ياسين، مؤمنًا بضرورة أن ينبع الأداء من داخله، من فهمه الخاص للشخصية.
**مواجهة الدكتور الزيات البحث عن الإنسان خلف الأديب**
كانت إحدى المحطات الفارقة في رحلة تحضيره للدور
هي لقائه بالدكتور محمد حسن الزيات، وزير الخارجية الأسبق وأحد معاصري طه حسين
والمقربين منه.
- لم يكن اللقاء سهلًا على الإطلاق. استُقبل زكي بامتعاض واضح، حيث لم يُخفِ الدكتور الزيات
- انزعاجه من فكرة أن يقوم هذا الشاب بتجسيد شخصية عميد الأدب، خاصة بعد الأداء القوي لياسين.
- كان الزيات يردد اسم محمود ياسين وكيف أنه "كان
وكان"، مما زاد من صعوبة الموقف.
- نصحه المخرج يحيى العلمي بعدم توجيه أسئلة للدكتور الزيات نظرًا لحالة عدم التقبل التي أظهرها.
- لكن زكي، بإصراره المعهود، قرر كسر الحاجز. وبجرأة لافتة، وفي خضم هذا الجو المشحون
- بالترقب والتحفظ، بادر زكي بسؤالين جوهريين بديا للوهلة الأولى بعيدين كل البعد عن العمق الفكري
- لطه حسين، متسائلاً: "كيف كان يضحك طه حسين؟ وكيف كان يبكي؟". زاد هذا من امتعاض
- الزيات، فتابع زكي طالبًا منه أن يروي له نكتة كان يقولها عميد الأدب، أو
موقفًا شخصيًا بكى فيه.
شعر زكي أن صبر الدكتور الزيات قد نفد، لكنه
استجمع شجاعته وأوضح رؤيته قائلاً: "عفواً يا دكتور... أنا أدرك تمامًا
القيمة الأدبية والفكرية لعميد الأدب العربي، وقرأت أعماله مثل 'حديث الأربعاء' و'في
الأدب الجاهلي' لأستوعب هذا الفكر الكبير. لكنني لا أقدم كتابًا، بل أجسد 'طه حسين
الإنسان'، الإنسان الذي كتب عن نفسه في 'الأيام'. أريد أن ألمس هذا الجانب
الإنساني منك، خاصة ما بعد مرحلة 'الأيام'."
- هنا، حدث التحول. استمع الدكتور الزيات باهتمام لكلمات زكي الصادقة، وبدأ يدرك عمق رؤيته.
- انفرجت أساريره، وشرع في سرد جوانب إنسانية دقيقة وخفية في شخصية طه حسين، من سُخريته
- اللاذعة والراقية، إلى مواقف إنسانية أخرى، مما فتح لزكي آفاقًا جديدة لفهم الشخصية بعيدًا عن
- صورتها الأدبية
النمطية.
**مقاومة محيطة ودراسة معمقة للعمى**
لم تقتصر المقاومة على الدكتور الزيات، بل واجه
زكي تشويشًا من المحيطين في كواليس العمل، حيث علت أصوات معترضة، بعضها يتعلق بلون
البشرة، وأخرى تقارن صوته بصوت محمود ياسين. لكنه وجد سندًا قويًا في المخرج يحيى
العلمي الذي شجعه وآمن بموهبته وإصراره.
- لم يكتفِ زكي بالسيناريو أو بشهادة الدكتور الزيات، بل غاص في دراسة عميقة لحالة فقدان البصر.
- استعان بخبير في اللغة العربية، وعكف على دراسة سلوكيات ما يزيد عن عشرة أشخاص من فاقدي
- البصر، محاولاً فهم الفروق الدقيقة بينهم. لاحظ أن الضرير الذي نشأ في بيئة شعبية قد تكون حركاته
- وكلامه أكثر عشوائية، بينما يختلف الأمر مع من نشأ في بيئة ثقافية أو دينية كمنطقة الحسين، حيث قد
- يكتسب سلوكًا أكثر اتزانًا وانبساطًا. كما درس حالة من فقد بصره في سن متأخرة، وكيف يمكن أن
- يؤثر ذلك على طباعه فيصبح أكثر عصبية أو حدة.
كان هدفه من كل هذا البحث الدؤوب هو الوصول إلى
جوهر شخصية طه حسين، ذلك الرجل "التأملي" الذي، رغم حجاب بصره، كان
يمتلك بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة، "مُفتّح من هنا" كما وصفه زكي. لقد سعى
لدمج هذا الفهم العميق مع إتقان اللغة العربية الفصحى، ليقدم لنا في نهاية المطاف
تجسيدًا لا يُنسى لعميد الأدب العربي، تجسيدًا تجاوز المظاهر الخارجية ليلامس
الروح الإنسانية بكل تعقيداتها.
الختام
إن تجربة أحمد زكي في التحضير لدور طه حسين
تُقدم نموذجًا للفنان الحقيقي الذي لا يخشى التحدي، بل يواجهه بالشجاعة، والبحث،
والاجتهاد، ليحول المعاناة إلى إبداع خالد.