recent
أخبار ساخنة

### **على مائدة الحصار: كيف حوّل الباريسيون الجوع إلى فن عام 1870؟**

 

### **على مائدة الحصار: كيف حوّل الباريسيون الجوع إلى فن عام 1870؟**

 

في شتاء عام 1870 القارس، وبينما كانت قذائف المدفعية البروسية تدك ضواحي باريس، كانت العاصمة الفرنسية، قلب العالم النابض بالفن والثقافة والنور، تعيش أقسى فصول تاريخها الحديث. لم يكن الحصار الذي فرضه المستشار الألماني أوتو فون بسمارك مجرد استراتيجية عسكرية لإخضاع فرنسا المهزومة، بل كان تجربة اجتماعية ونفسية مريرة، وضعت مليوني باريسي وجهًا لوجه مع عدو لا يرحم: الجوع.

في شتاء عام 1870 القارس، وبينما كانت قذائف المدفعية البروسية تدك ضواحي باريس، كانت العاصمة الفرنسية، قلب العالم النابض بالفن والثقافة والنور، تعيش أقسى فصول تاريخها الحديث. لم يكن الحصار الذي فرضه المستشار الألماني أوتو فون بسمارك مجرد استراتيجية عسكرية لإخضاع فرنسا المهزومة، بل كان تجربة اجتماعية ونفسية مريرة، وضعت مليوني باريسي وجهًا لوجه مع عدو لا يرحم: الجوع.
### **على مائدة الحصار: كيف حوّل الباريسيون الجوع إلى فن عام 1870؟**


### **على مائدة الحصار: كيف حوّل الباريسيون الجوع إلى فن عام 1870؟**


  •  لكن في خضم هذه المحنة، تجلت عبقرية فرنسية فريدة، عبقرية لم تكتفِ بالبحث عن سبل للبقاء
  •  بل أصرت على تحويل البقاء نفسه إلى شكل من أشكال الفن، لتحكي قصة صمود مذهلة لم تُكتب
  •  فصولها في ساحات القتال، بل على قوائم الطعام في مطاعم المدينة المحاصرة.

#### **الخلفية التاريخية السقوط في فخ بسمارك**

 

لكي نفهم عمق المأساة الغذائية، لا بد من العودة إلى السياق. بدأت الحرب الفرنسية البروسية في يوليو 1870، وبحلول سبتمبر، كانت الهزيمة الفرنسية كارثية. في معركة سيدان، تم أسر الإمبراطور نابليون الثالث نفسه، مما أدى إلى انهيار الإمبراطورية الثانية وإعلان الجمهورية الثالثة على عجل.

  •  وبينما كانت فرنسا تترنح، زحفت الجيوش البروسية وحلفاؤها الألمان نحو باريس. كانت خطة
  •  بسمارك بسيطة وشيطانية: بدلاً من اقتحام المدينة في معركة دموية ومكلفة، سيقوم بتطويقها بالكامل
  •  وقطع كل خطوط الإمداد، وترك الجوع والبرد يقومان بالمهمة. في 19 سبتمبر 1870، أُحكم "الطوق
  •  الحديدي" حول باريس، وبدأ عد تنازلي قاسٍ لمخزوناتها الغذائية.

 

في البداية، سادت روح من التحدي واللامبالاة. كان الباريسيون، الذين اعتادوا على اعتبار مدينتهم مركز الكون، على ثقة بأن الحصار لن يدوم طويلاً. لكن مع مرور الأسابيع وتحولها إلى أشهر، بدأت الحقيقة المرة تتكشف. نفدت مخزونات اللحم البقري والضأن، وارتفعت أسعار الخبز بشكل جنوني، وبات شبح المجاعة يلوح في الأفق، مهددًا بسحق ليس فقط أجسادهم، بل روحهم الثقافية التي طالما تفاخروا بها.

 

#### **من اللحم المعتاد إلى لحم الحصان بداية التحول**

 

كان أول ضحايا الحصار هو الحصان. هذا الكائن النبيل، الذي كان رمزًا للمكانة الاجتماعية ووسيلة للنقل وجزءًا من عتاد الجيش، أصبح المصدر الرئيسي للبروتين. لم يكن أكل لحم الحصان (hippophagie) جديدًا بالكامل في فرنسا، لكنه كان مرتبطًا بالفقر المدقع.

  1.  الآن، أصبح ضرورة وطنية. فتحت مجازر متخصصة في لحم الخيل أبوابها في جميع أنحاء المدينة.
  2.  تشير السجلات إلى أنه تم ذبح ما بين 65,000 إلى 70,000 حصان خلال أربعة أشهر من الحصار
  3.  بما في ذلك خيول السباق الثمينة وحتى حصانين كانا يجران عربة نابليون الثالث الشخصية.

 

لم يكتفِ الباريسيون بطهي لحم الحصان كخيار بائس، بل حاولوا إدراجه ضمن تقاليدهم الراقية. يصف الطبيب الأمريكي روبرت لوري سيبيت، الذي حوصر في المدينة، كيف أقامت اللجنة الصحية مأدبة رسمية تمحورت بالكامل حول لحم الحصان، وقُدمت فيها أطباق مثل: "حساء مرق الحصان"، "لحم حصان مسلوق مع الملفوف"، و"فيليه حصان مشوي". كانت هذه محاولة يائسة لتطبيع الوضع والحفاظ على مظهر الحياة الراقية.

 

#### **حديقة الحيوانات القائمة الأكثر سريالية في التاريخ**

 

مع نفاد الخيول، اتجهت الأنظار الجائعة إلى مصدر غير متوقع: حديقة الحيوانات في "Jardin d'Acclimatation". ما كان يومًا مكانًا للبهجة والدهشة العائلية تحول إلى مسلخ فاخر. أُعدمت الحيوانات الغريبة واحدة تلو الأخرى وبيعت لحومها في مزادات علنية لكبار طهاة باريس. شملت القائمة الجمال، والظباء، والدببة، والكنغر، وحتى الياك.

 

  • لكن القصة الأكثر إيلامًا ورمزية كانت مصير الفيلين الشهيرين، كاستور وبولوكس. كان هذان الفيلان
  •  محبوبين بشكل خاص من أطفال باريس، وكانا رمزًا للحديقة. في نهاية ديسمبر 1870، تم بيعهما
  •  وذبحهما. كانت هذه اللحظة بمثابة اعتراف بأن كل المحرمات قد سقطت. وقد وثّق الدبلوماسي
  •  البريطاني هنري لابوشير، الذي كان في باريس، تجربته مع هذا اللحم الغريب في مذكراته قائلاً
  •  "تناولت بالأمس شريحة من بولوكس... كان اللحم قاسيًا وخشناً ودهنياً، ولا أنصح العائلات
  •  الإنجليزية بتناوله ما دام لحم البقر أو الغنم متوفرًا."

 

#### **قمة التحدي قائمة طعام عيد الميلاد في مقهى فوازان**

 

إذا كان هناك رمز واحد يختزل هذه الفترة بكل تناقضاتها، فهو قائمة العشاء الأسطورية التي قدمها مقهى "فوازان" (Café Voisin) الراقي في يوم عيد الميلاد، 25 ديسمبر 1870، والذي صادف اليوم الـ99 للحصار. لم تكن هذه القائمة مجرد عرض للطعام المتاح، بل كانت بيانًا ثقافيًا وسياسيًا، تحفة فنية من السخرية السوداء والصمود الأنيق.

 

تحت عنوان "اليوم التاسع والتسعون للحصار"، قدم الشيف ألكسندر إتيان شورون قائمة بدت وكأنها من عالم الخيال:

 

*   **المقبلات:** رأس حمار محشو (Tête d’Âne Farcie).

*   **الحساء:** حساء الفيل (Consommé d'Éléphant).

*   **الأطباق الرئيسية:** جمل مشوي على الطريقة الإنجليزية، كنغر مطهو، أضلاع دب بصلصة الفلفل، فخذ ذئب بصلصة لحم الغزال، قط محاط بالجرذان (Le Chat flanqué de Rats)، وفطيرة الظباء بالكمأة.

 

كان طبق "القط المحاط بالجرذان" على وجه الخصوص ذروة العبثية والسخرية. يرى المؤرخون أن الشيف شورون لم يكن يقدم طعامًا فحسب، بل كان يقدم محاكاة ساخرة للحرب نفسها على طبق، معبرًا عن اشمئزازه من عبثية الصراع الذي حوّل مدينته إلى مكان يأكل فيه الناس أصدقاءهم الأليفة وقوارض المجاري.

 

#### **من الشوارع إلى الموائد القطط والكلاب والجرذان**

 

بينما كانت النخبة تتذوق لحم الكنغر في المطاعم الفاخرة، كان عامة الناس يخوضون معركة بقاء أكثر قسوة. كتب الرسام الانطباعي كلود مونيه في رسالة إلى زوجته: "يوجد الآن جزارون للقطط والكلاب والجرذان في باريس". أصبحت الحيوانات الأليفة هدفًا للصيادين الجائعين. ولخص المعاصر هنري ماركايم الوضع بقوله: "اللحم الكلبي ليس بديلاً سيئًا للضأن، ولحم القط، كما يعلم الجميع، يؤكل غالبًا كبديل للأرنب".

 

  1. أما الجرذان، التي كانت تعتبر رمزًا للقذارة، فقد تحولت إلى سلعة ثمينة. كان يتم اصطيادها من
  2.  مجاري باريس وبيعها بأسعار باهظة. والمفارقة أن لحم الجرذ أصبح نوعًا من الرفاهية، حيث كان
  3.  الأثرياء يستمتعون بـ "فطائر الجرذان" التي كانت تباع بأسعار تفوق أسعار لحوم القطط والكلاب.

 

#### **الإرث ما وراء القائمة الغريبة**

 

على الرغم من كل هذا الابتكار المرير، كان الواقع مأساويًا. مات الآلاف من البرد والجوع والأمراض المرتبطة بسوء التغذية. انتهى الحصار في 28 يناير 1871 بتوقيع فرنسا على هدنة مهينة، تلتها معاهدة سلام خسرت بموجبها مقاطعتي الألزاس واللورين.

 

  • لكن تجربة الحصار تركت إرثًا عميقًا. لقد كشفت عن جوهر الهوية الباريسية والفرنسية: الإيمان بأن
  •  الثقافة والجمال وفن الحياة (joie de vivre) ليست مجرد كماليات، بل هي ضرورات أساسية، حتى
  •  في أحلك الظروف. إن تحويل لحم الجرذ إلى طبق يقدم بأناقة، وتسمية حساء الفيل باسم فاخر، لم يكن
  •  مجرد محاولة لإشباع الجوع، بل كان رفضًا قاطعًا للاستسلام للهمجية التي تفرضها الحرب. لقد كان
  •  إصرارًا على أن يظلوا "باريسيين" حتى النهاية.

 الختام

في النهاية، كانت تلك القوائم الغريبة أكثر من مجرد توثيق لليأس؛ لقد كانت شهادة على قدرة الروح البشرية على الصمود والإبداع، وعلى أن الحضارة يمكن أن تجد لنفسها مكانًا حتى على مائدة 차려진 من لحوم الحيوانات الأليفة وقوارض الشوارع.

 وبعد أن انقشع غبار الحرب، نهضت فرنسا من رمادها، ليس فقط كجمهورية ثالثة ستلهم أوروبا، بل كأمة أثبتت أن علاقتها بالطعام هي جزء لا يتجزأ من هويتها، علاقة قادرة على تحويل أقسى مآسي البقاء إلى أسطورة خالدة في فن الطهي.

### **على مائدة الحصار: كيف حوّل الباريسيون الجوع إلى فن عام 1870؟**


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent