### **مجلس الاحتياطي الفيدرالي: العقل المدبر للاقتصاد العالمي والركيزة المتأرجحة بين السياسة والضرورة**
في قلب واشنطن العاصمة، وفي مبنى تاريخي مهيب،
يقع مقر مؤسسة لا تقتصر قراراتها على تحديد مصير الاقتصاد الأكبر في العالم فحسب،
بل ترسل موجات صدمة تمتد عبر القارات، مؤثرةً في كل شيء، من أسعار السلع الأساسية
في أفريقيا إلى تدفقات الاستثمار في آسيا. هذا هو مجلس الاحتياطي الفيدرالي
الأميركي، أو "الفيدرالي" كما يُعرف عالمياً، وهو ليس مجرد بنك مركزي،
بل هو القوة المالية الأعظم التي يتجه إليها العالم بأسره بترقب وقلق مع كل اجتماع
للجنته.
![]() |
### **مجلس الاحتياطي الفيدرالي: العقل المدبر للاقتصاد العالمي والركيزة المتأرجحة بين السياسة والضرورة** |
#### **التأسيس من رحم الفوضى ولادة ضرورية**
لم يولد "الفيدرالي" من فراغ أو ترف،
بل كان استجابة حتمية لحقبة من الفوضى المالية العارمة التي عصفت بالولايات
المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. قبل عام 1913، كان النظام
المصرفي الأميركي يعاني من أزمات متكررة وعنيفة، أشهرها "ذعر عام 1907"،
حيث أدت عمليات سحب الودائع الهائلة إلى انهيار بنوك ومؤسسات مالية كبرى، مما كاد
يشل الاقتصاد الوطني. لم يكن هناك "مقرض أخير" لإنقاذ البنوك المتعثرة،
وكانت العملة تفتقر إلى المرونة اللازمة لمواجهة الصدمات الاقتصادية.
- في هذا السياق، جاء "قانون الاحتياطي الفيدرالي" لعام 1913، الذي وقعه الرئيس وودرو ويلسون
- ليؤسس نظامًا مصرفيًا مركزيًا يهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة: توفير نظام مالي أكثر أمانًا
- ومرونة واستقرارًا، والإشراف على البنوك، ووضع سياسة نقدية وطنية. كانت هذه الولادة بمثابة
- نقطة تحول تاريخية، نقلت الولايات المتحدة من نظام مالي غير مركزي ومضطرب إلى عصر من
- الإدارة المالية المنظمة.
#### **هيكلية فريدة مزيج من المركزي واللامركزي**
إن ما يميز "الفيدرالي" عن كثير من
البنوك المركزية حول العالم هو هيكله الهجين الذي يجمع بين السلطة المركزية في
واشنطن والتمثيل الإقليمي. يتكون هذا الصرح المعقد من ثلاثة أركان أساسية:
1. **مجلس
المحافظين (Board of Governors):**
هو العقل المدبر للنظام، ويتألف من سبعة أعضاء يعينهم
رئيس الولايات المتحدة ويصادق عليهم مجلس الشيوخ. تمتد فترة ولاية كل عضو إلى 14
عامًا، وهي فترة طويلة مصممة خصيصًا لعزلهم عن الضغوط السياسية قصيرة المدى وضمان
اتخاذ قرارات مبنية على أسس اقتصادية بحتة. من بين هؤلاء الأعضاء، يتم اختيار الرئيس
ونائب الرئيس لولاية مدتها أربع سنوات قابلة للتجديد.
2. **البنوك
الاحتياطية الفيدرالية الإقليمية
(Regional Federal Reserve Banks):** هي الذراع
التنفيذية للنظام، وعددها 12 بنكًا موزعة جغرافيًا في مدن رئيسة مثل نيويورك،
وشيكاغو، وسان فرانسيسكو. هذه البنوك هي كيانات شبه حكومية، حيث إنها مملوكة
للبنوك التجارية الأعضاء في مناطقها، لكنها تخضع لإشراف مجلس المحافظين. تقوم هذه
البنوك بدور حيوي في تنفيذ السياسات النقدية، وتقديم الخدمات المالية للحكومة
والمؤسسات المالية، وإجراء أبحاث اقتصادية معمقة عن مناطقها.
3. **اللجنة
الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC):**
هي المحرك الرئيس للسياسة النقدية وأكثر هيئات "الفيدرالي"
متابعةً على مستوى العالم. تتخذ هذه اللجنة القرارات الحاسمة بشأن أسعار الفائدة
وعمليات السوق المفتوحة. تتكون من 12 عضوًا مصوتًا: الأعضاء السبعة في مجلس المحافظين،
ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك (بشكل دائم نظرًا لدور نيويورك كمركز
مالي)، وأربعة من رؤساء البنوك الإقليمية الأخرى يتناوبون على عضويتها سنويًا.
#### **ترسانة الأدوات النقدية من التقليدي إلى المبتكر**
لتحقيق تفويضه المزدوج المتمثل في "تحقيق
أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار"، يمتلك "الفيدرالي" مجموعة
من الأدوات القوية:
* **عمليات
السوق المفتوحة:** هي الأداة الأكثر استخدامًا، حيث تقوم اللجنة الفيدرالية (FOMC) بشراء أو
بيع الأوراق المالية الحكومية في السوق المفتوحة. عند الشراء، تضخ السيولة في
النظام المصرفي، مما يخفض سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية (Federal Funds Rate) ويحفز الاقتصاد. وعند البيع، تسحب السيولة، مما يرفع الفائدة ويكبح التضخم.
* **سعر
الخصم (Discount Rate):** هو سعر الفائدة الذي تفرضه البنوك الاحتياطية على القروض التي
تقدمها للبنوك التجارية. يعمل كشبكة أمان وكمؤشر لاتجاهات السياسة النقدية.
* **متطلبات
الاحتياطي (Reserve
Requirements):** هي نسبة الودائع التي يجب على البنوك
الاحتفاظ بها وعدم إقراضها. أصبحت هذه الأداة أقل استخدامًا في العصر الحديث،
لكنها تظل جزءًا من الترسانة.
* **التيسير
الكمي (Quantitative Easing - QE):**
أداة غير تقليدية لجأ إليها "الفيدرالي" خلال
الأزمات الكبرى مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008 وجائحة كوفيد-19. تتضمن شراء
كميات هائلة من الأصول طويلة الأجل (مثل سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة
بالرهن العقاري) لخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل وتحفيز الاقتصاد عندما تكون أسعار
الفائدة قصيرة الأجل قريبة من الصفر.
#### **الهيمنة العالمية لماذا يخشى العالم عطسة "الفيدرالي"؟**
تتجاوز أهمية "الفيدرالي" حدود
الولايات المتحدة بكثير، وذلك لعدة أسباب مترابطة:
أولاً، **هيمنة الدولار الأميركي** الذي يشكل
العملة الاحتياطية العالمية الأولى. فمعظم التجارة الدولية، خاصة في السلع
الاستراتيجية كالنفط والمعادن، تسعر وتُسدد بالدولار. أي تغيير في قيمة الدولار
نتيجة لسياسات "الفيدرالي" يؤثر مباشرة في تكلفة التجارة العالمية.
ثانياً، **تدفقات رؤوس الأموال**. عندما يرفع "الفيدرالي"
أسعار الفائدة، يصبح الاستثمار في الأصول الأميركية أكثر جاذبية، مما يؤدي إلى "هروب
رؤوس الأموال" من الأسواق الناشئة نحو الولايات المتحدة. هذا الأمر يضعف
عملات تلك الدول، ويزيد من تكلفة ديونها المقومة بالدولار، وقد يؤدي إلى أزمات
مالية حادة.
ثالثاً، **التأثير على السياسات النقدية
العالمية**. تضطر البنوك المركزية الأخرى، من البنك المركزي الأوروبي إلى بنك
إنجلترا، إلى مراقبة قرارات "الفيدرالي" والتفاعل معها. فإذا قام "الفيدرالي"
بتشديد سياسته النقدية، قد تضطر البنوك الأخرى إلى فعل الشيء نفسه لمنع انهيار
عملاتها، حتى لو كان اقتصادها المحلي لا يحتمل مثل هذا التشديد.
#### **معركة الاستقلالي الخط الفاصل بين الاقتصاد والسياسة**
إن حجر الزاوية في مصداقية أي بنك مركزي هو
استقلاليته عن السلطة السياسية. يُفترض أن يتخذ "الفيدرالي" قراراته
بناءً على البيانات الاقتصادية وتحقيقًا لتفويضه، وليس لإرضاء رئيس أو حزب سياسي
يسعى لتحقيق مكاسب انتخابية قصيرة المدى. هذه الاستقلالية تعرضت لاختبارات قاسية
عبر التاريخ.
* **ريتشارد
نيكسون وآرثر بيرنز (1972):** مارس الرئيس نيكسون ضغوطًا هائلة على رئيس "الفيدرالي"
آنذاك، آرثر بيرنز، لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة قبل حملة إعادة انتخابه. استجاب
بيرنز جزئيًا، وهو ما يعتقد كثير من الاقتصاديين أنه ساهم في زرع بذور "التضخم
العظيم" الذي ضرب الاقتصاد الأميركي في السبعينيات.
* **بول
فولكر و"صدمة فولكر" (أوائل الثمانينيات):** لإصلاح الضرر، اتخذ الرئيس
بول فولكر قرارات مؤلمة للغاية برفع أسعار الفائدة إلى مستويات فلكية وصلت إلى 20%
لسحق التضخم. أدت هذه السياسة إلى ركود اقتصادي حاد، لكنها أعادت ترسيخ مصداقية "الفيدرالي"
واستقلاليته.
* **دونالد
ترمب وجيروم باول:** في العصر الحديث، شهدنا صدامًا علنيًا وغير مسبوق بين الرئيس
ترمب ورئيس "الفيدرالي" جيروم باول. وصف ترمب باول بـ"العدو" و"الغبي"
لمجرد أنه كان يرفع أسعار الفائدة لمواجهة بوادر التضخم. صمود باول وفريقه أمام
هذه الهجمات عزز من صورة "الفيدرالي" كمؤسسة مستقلة.
#### **فى الختام**
في نهاية المطاف، يمثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أكثر من مجرد مؤسسة مالية؛ إنه موازن دقيق بين النمو والتضخم، ومرساة استقرار للاقتصاد الأميركي، وبوصلة توجه النظام المالي العالمي. قراراته، التي يتخذها عدد قليل من الأفراد في غرفة مغلقة، تحمل في طياتها القدرة على إشعال الرخاء أو التسبب في ركود عالمي.
وبينما يستمر الصراع الأزلي بين الضغوط السياسية والضرورة
الاقتصادية، يبقى العالم يحبس أنفاسه، مدركًا أن مصيره المالي مرتبط بشكل وثيق
بالقرارات التي تتخذ خلف جدران هذا الصرح العظيم في واشنطن.