### **من أرشيف الذاكرة إلى قلب لوكارنو: فيلم "مع حسن في غزة" لكمال الجعفري يبعث زمناً مفقوداً**
في دورة استثنائية لمهرجان لوكارنو السينمائيالدولي، أحد أعرق المهرجانات الأوروبية وأكثرها جرأة في اختياراتها الفنية، يبرز
صوت سينمائي قادم من عمق الجرح الفلسطيني. ليس مجرد فيلم، بل هو شهادة بصرية
وأثرية، عمل يرفض النسيان ويقاوم المحو. فيلم "مع حسن في غزة" للمخرج
الفلسطيني كمال الجعفري لم يكن مجرد مشاركة عادية، بل كان بمثابة افتتاح صادم
ومؤثر للمسابقة الرسمية، ليضع قضية غزة، بماضيها وحاضرها المأساوي، في قلب النقاش
السينمائي العالمي.
![]() |
### **من أرشيف الذاكرة إلى قلب لوكارنو: فيلم "مع حسن في غزة" لكمال الجعفري يبعث زمناً مفقوداً** |
- هذا العمل، الذي سيكمل رحلته إلى مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، ليس مجرد فيلم وثائقي
- بالمعنى التقليدي، بل هو تأمل عميق في مفاهيم الذاكرة، الفقد، ووطأة الزمن الذي يسحق كل شيء في
- طريقه، مقدماً دليلاً دامغاً على أن السينما، في جوهرها، قد تكون السلاح الأمضى في مواجهة الإبادة
- الثقافية والمادية.
#### **لوكارنو يفتح نافذة على جرح غزة**
يأتي اختيار "مع حسن في غزة" لافتتاح
مسابقة الدورة الـ78 لمهرجان لوكارنو في سياق سياسي وإنساني محموم. ففي الوقت الذي
تتصدر فيه أخبار الدمار والقتل الممنهج في غزة شاشات العالم منذ ما يقرب من عامين،
يقدم المهرجان منصة مرموقة لصوت فلسطيني لا يصرخ بالشعارات، بل يهمس بالحكايات
الدفينة التي تشكل الذاكرة الجمعية. هذا الاختيار بحد ذاته هو موقف فني وسياسي،
يؤكد انفتاح المهرجان على السرديات القادمة من الشرق الأوسط، ويمنحها الشرعية
والاهتمام الذي تستحقه في مواجهة السرديات المهيمنة.
- المخرج كمال الجعفري، البالغ من العمر 53 عاماً، ليس غريباً على لوكارنو أو على الساحة الدولية.
- فهو يمتلك رصيداً سينمائياً فريداً، كرّسه لتوثيق وأرشفة التاريخ الفلسطيني المنهوب. فيلمه السابق
- "الفيلم عمل فدائي" كان تحقيقاً سينمائياً مذهلاً في عملية نهب إسرائيل للأرشيف الضخم لمركز
- الأبحاث الفلسطيني في بيروت عام 1982. ومن هنا، يمكن فهم فيلمه الجديد كاستمرارية لهذا
- المشروع الوجودي: إذا كان الأرشيف الرسمي قد سُرق، فلا بد من النبش في الأرشيف الشخصي، في
- الذاكرة البصرية الفردية، لاستعادة ما يمكن استعادته.
#### **رحلة إلى الأرشيف ولادة فيلم من رحم النسيان**
قصة "مع حسن في غزة" تبدأ قبل أكثر من
عقدين. في عام 2001، خلال ذروة الانتفاضة الثانية، كان الجعفري شاباً في مقتبل
العمر، يحمل كاميرا "ميني دي في" (MiniDV)، ويوثق كل ما تقع عليه عيناه في شوارع
غزة وأزقتها ومخيماتها. لم يكن هناك سيناريو مكتوب أو خطة مسبقة لفيلم. كانت مجرد
عملية توثيق عفوية، تسجيل للحياة اليومية تحت الحصار والاحتلال، محاولة لالتقاط
نبض مكان يُراد له أن يكون مجرد رقم في نشرات الأخبار.
- بقيت هذه المواد، المسجلة على ثلاثة شرائط فيديو، منسية في أرشيف المخرج الشخصي لسنوات
- طويلة. في الأصل، كان ينوي صنع فيلم عن رفيق له تعرف عليه في السجن عام 1989، لكن رحلة
- البحث هذه قادته إلى مسارات غير متوقعة عبر غزة، من شمالها إلى جنوبها. وفي هذه الرحلة، رافقه
- شاب غزاوي اسمه "حسن"، الذي أصبح دليله وعينه في المكان. اليوم، وبعد كل هذه السنوات
- والحروب، يعترف الجعفري بأنه لا يعرف شيئاً عن مصير حسن، وهو ما يضيف طبقة أخرى من
- الفجيعة والأسى
على الفيلم، ليصبح حسن نفسه رمزاً لجيل كامل قد يكون ضاع إلى الأبد.
#### **الزمن كشخصية رئيسية حوار بين الماضي والحاضر**
القوة الحقيقية لفيلم "مع حسن في غزة"
تكمن في الحوار الضمني، المؤلم والحميم، الذي يقيمه بين زمنين: غزة عام 2001 وغزة
اليوم. الصور التي التقطها الجعفري آنذاك، بحيويتها وبساطتها، تكتسب اليوم بعداً
تراجيدياً هائلاً. كل وجه يظهر في الفيلم، كل ابتسامة، كل حديث عابر، كل مبنى وكل
شارع، يطرح سؤالاً واحداً في ذهن المشاهد: أين هم الآن؟ ماذا حل بهم؟ هل نجوا؟
- هذه المواد المنسية، التي طواها الزمن، تتحول بفعل المونتاج والنظرة الحالية إلى صدى مرير لما
- يحدث اليوم. إنها لا توثق الماضي فقط، بل تجعل الحاضر أكثر إيلاماً ووضوحاً. يمدنا الفيلم بإحساس
- عميق بالفجيعة المتراكمة، حيث نرى حياة كانت ممكنة، حياة طبيعية بكل تفاصيلها الصغيرة، قبل أن
- تجتاحها آلة التدمير. هذا بالضبط ما يجعل الفيلم وثيقة تاريخية وعاطفية لا تقدر
بثمن.
#### **لغة سينمائية متحررة شاعرية الهاوي وعمق المحترف**
يتجنب كمال الجعفري ببراعة كل القوالب الجاهزة
للفيلم الوثائقي. لا توجد مقابلات مباشرة، ولا تعليق صوتي يفسر ما نراه، ولا
شهادات موجهة. بدلاً من ذلك، يترك الصورة الخام تتحدث عن نفسها. لقطاته تبدو
أحياناً وكأنها بعدسة هاوٍ، بحركتها المهتزة وعفويتها، لكنها في العمق تحمل قدرة
هائلة على التعبير عن مأساة يومية أصبحت، من فرط تكرارها، غير مرئية.
- يذكر أسلوب الجعفري هنا بالسينمائي الفرنسي الكبير ريمون دوباردون، خاصة في فيلمه "أفريقيا
- كيف الحال مع الألم؟"، من حيث قدرة الكاميرا على التماهي التام مع عين المخرج، والتقاط كل ما
- يحيط به عبر حركات بانورامية تقوم بمسح شامل للمكان، لتصبح الكاميرا شاهداً متورطاً عاطفياً، لا
- مجرد مراقب محايد. إنها سينما تبحث عن الحقيقة ليس في الأحداث الكبرى، بل في التفاصيل
- الهامشية، في المسكوت عنه، في الابتسامات التي تخفي ألماً عميقاً.
يصف الجعفري فيلمه بأنه "تأمل سينمائي في الذاكرة والفقد ومرور الزمن". وهذا التأمل لا يحتاج إلى أدوات معقدة، فالعفوية والصدق هما جوهر السينما التي يقدمها، خاصة عندما يصبح الأشخاص أمام الكاميرا شركاء فعليين في صناعة العمل، لا مجرد مواضيع للدراسة.
#### **الهزيمة كسلاح نظرة فرانز فانون في مواجهة النسيان**
أحد أعمق جوانب الفيلم هو المنحى الفلسفي الذي
يتبناه المخرج. يدخل الجعفري إلى "أرض المعركة" البصرية كـ"مهزوم"،
وهو مصطلح لا يحمل هنا دلالة سلبية، بل يعكس وعياً عميقاً بأن السينما وحدها لن
تغير الواقع المادي المرير لـ"معذبي الأرض" (وهو عنوان كتاب فرانز فانون
الشهير الذي قرأه الجعفري أثناء فترة اعتقاله).
- هذه النظرة "المهزومة" هي ما تمنح الفيلم صدقه وشاعريته. فهو لا يرفع الشعارات أو القبضات، ولا
- يدّعي امتلاك إجابات. لكن هذه الهزيمة لا تعني الاستسلام. على العكس، فإن المخرج "المهزوم"
- يتمسك بأداة التوثيق كسلاح أخير وأبقى في مواجهة النسيان. أن تصور وأنت لا تتوقع شيئاً، أن تسجل
- الحياة كما هي دون محاولة تجميلها أو استغلالها درامياً، هو ما يمنح الفيلم مكانة سينمائية رفيعة، وه
- و الدرس الذي، للأسف، لم يدركه كثير من السينمائيين الذين تناولوا القضية الفلسطينية، فوقعوا في فخ
- المباشرة والخطابة.
**فى الختام**
فيلم "مع حسن في غزة" هو أكثر من مجرد عمل سينمائي ناجح. إنه فعل مقاومة ضد المحو، وصرخة هادئة في وجه عالم يصم أذنيه. إنه يثبت أن العناية بالصورة لا تعني بالضرورة الجماليات المصقولة، بل الصدق المطلق. من خلال نبش أرشيفه الشخصي، لم يستعد كمال الجعفري جزءاً من ذاكرته فقط، بل أعاد إلى الحياة زمناً وشعباً يُراد لهما أن يختفيا من الوجود ومن التاريخ.
في نهاية
المطاف، يؤكد الفيلم أن كل لقطة، كل صورة، وكل وجه يتم إنقاذه من النسيان، هو
انتصار صغير للحياة على الموت، وللذاكرة على الإبادة.