**الشلل الحكومي في فرنسا: خطر الدخول في عام جديد بلا موازنة وتداعياته الاقتصادية الوخيمة**
تُعد الموازنة السنوية
ركيزة أساسية لأي اقتصاد مستقر، فهي خارطة طريق تحدد أولويات الإنفاق والإيرادات،
وتوجه دفة التنمية والنمو. وفي قلب أوروبا، تواجه فرنسا، إحدى القوى الاقتصادية
الكبرى، تحديًا غير مسبوق يتمثل في خطر الدخول إلى عام 2026 دون موازنة معتمدة، وذلك
في ظل شلل حكومي غير مسبوق أعقب استقالة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو. هذه الأزمة
السياسية لا تهدد فقط بوقف عجلة التنمية، بل تُنذر بتداعيات اقتصادية واجتماعية
عميقة قد تدفع بالاقتصاد الفرنسي إلى مرحلة من عدم اليقين والتراجع.
![]() |
**الشلل الحكومي في فرنسا: خطر الدخول في عام جديد بلا موازنة وتداعياته الاقتصادية الوخيمة** |
**أزمة سياسية تُعيق مسار الموازنة**
بعد استقالة سيباستيانلوكورنو من رئاسة الوزراء الفرنسية يوم الاثنين الماضي، وتفكك التشكيلة الحكومية،
أصبح مسار إقرار مشروع موازنة عام 2026 في موعده المحدد أمرًا شبه مستحيل. كان من
المفترض أن يُعرض المشروع على الجمعية الوطنية (البرلمان) يوم الثلاثاء الماضي، لتبدأ
لجنة المالية دراسته بعد أيام قليلة، في عملية برلمانية تستغرق عادة 70 يومًا بهدف
الوصول إلى تصويت نهائي في ديسمبر ونشر الموازنة في الجريدة الرسمية قبل 31 ديسمبر.
- غياب حكومة فاعلة ووزراء يتمتعون بكامل الصلاحيات لإدارة هذه العملية يُعد العائق الأكبر. فاجتماع
- مجلس الوزراء الذي كان مقررًا لمناقشة مشروع الموازنة لم ينعقد، مما ألقى بظلال الشك على قدرة
- فرنسا على الالتزام بالجدول الزمني الدستوري لإقرار الموازنة. هذه الأزمة السياسية، التي تأتي في
- وقت يشهد فيه الاقتصاد الفرنسي تحديات متعددة، تزيد من تعقيد المشهد وتُهدد بجر البلاد إلى دوامة
- من عدم الاستقرار.
**سيناريوهات محتملة ومخاطر اقتصادية**
في ظل هذا الشلل، تلوح
في الأفق عدة سيناريوهات محتملة، كل منها يحمل مخاطره الخاصة:
1. **اللجوء إلى "القانون الخاص" (12/12):** هذا
السيناريو الأكثر ترجيحًا في حال عدم إقرار الموازنة الجديدة. يتضمن هذا القانون
اعتماد موازنة عام 2025 وتقسيمها إلى 12 جزءًا، يتم التصويت عليها شهريًا. يسمح
هذا النظام باستمرار دفع أجور الموظفين الحكوميين وتغطية النفقات الحكومية
الأساسية، والحفاظ على سير العمل الإداري. إنه بمثابة حل مؤقت لتصريف الأعمال،
يجنب البلاد الشلل التام، لكنه لا يخلو من السلبيات.
* **عدم
مواكبة التضخم:** الموازنة المعتمدة على بيانات العام السابق لن تكون قادرة على
مواكبة التضخم الحالي الذي يبلغ 1.5%. هذا يعني أن الحل المؤقت سيتسبب في انخفاض
القوة الشرائية الفعلية للميزانية، وقد يؤثر على جودة الخدمات العامة.
* **تجميد ضريبة الدخل
وتأثيرها:** تجميد ضريبة الدخل بمقتضى هذا القانون يعني أن الأفراد الذين تزداد
أجورهم - ولو بشكل طفيف - قد يجدون أنفسهم في شرائح ضريبية أعلى، مما يزيد من
العبء الضريبي عليهم. وقد شهدت فرنسا العام الماضي انضمام 620 ألف أسرة جديدة إلى
دافعي الضرائب بسبب هذا التجميد.
* **توفير
آلي مع إمكانية التقييد:** هذا النظام يحقق توفيرًا آليًا يقدر بنحو 10 مليارات
يورو (11.6 مليار دولار) بسبب عدم تحديث بعض بنود الإنفاق. ورغم أن هذا قد يبدو
إيجابيًا للوهلة الأولى، إلا أنه قد يؤدي إلى تقييد المشاريع الجديدة والاستثمارات
الضرورية للنمو.
* **المزايا
الاجتماعية:** من الإيجابيات أن هذا النظام يضمن استمرار المزايا الاجتماعية
الأساسية مثل معاشات التقاعد والحد الأدنى للأجور ومواكبتها للتضخم، كونها منصوص
عليها في القانون ولا تحتاج إلى إعادة التصويت عليها سنويًا.
2. **تأجيل إقرار الموازنة إلى ما بعد نهاية العام:** هذا
السيناريو، رغم أنه قد يجنب "القانون الخاص"، إلا أنه يعرض فرنسا لمخاطر
اقتصادية ومالية جسيمة. حذر رئيس ديوان المحاسبة الفرنسي، بيير موسكوفيتشي، في
سبتمبر الماضي من "عدم الرغبة" في هذا السيناريو، مؤكدًا أن "الأسواق
تراقب التصويت على الموازنة بدقة وتنظر إلى فرنسا متسائلة عن موقفنا، وكل هذا يحدث
تحت أنظار الاتحاد الأوروبي". عدم اعتماد الموازنة في موعدها يبعث برسائل
سلبية للمستثمرين والشركاء الأوروبيين.
**تداعيات الأزمة على الاقتصاد الفرنسي والأسواق المالية**
تتجاوز تداعيات هذا
الشلل الحكومي مجرد عدم إقرار الموازنة إلى التأثير المباشر على الأداء الاقتصادي
لفرنسا ومكانتها في الأسواق المالية العالمية:
* **خفض التصنيف الائتماني:** من المتوقع أن تُخفض وكالتا "موديز"
و"ستاندرد أند بورز" التصنيف الائتماني لفرنسا في نهاية الشهر الجاري،
في حال استمرار الأزمة وعدم إقرار الموازنة. خفض التصنيف الائتماني يعني زيادة
تكلفة الاقتراض على الحكومة الفرنسية، مما يزيد من الضغط على الموازنة العامة
ويقلل من قدرتها على الإنفاق على المشاريع التنموية.
* **ارتفاع أسعار الفائدة على الديون:** بالفعل، ارتفعت أسعار
الفائدة على الديون الفرنسية يوم الاثنين الماضي بمجرد استقالة رئيس الوزراء. دفع
هذا الخبر سعر السندات الفرنسية لأجل 10 سنوات إلى الارتفاع ليصل إلى 3.61%، مما
يعني أن كل يورو مقترض سيكلف سداده أكثر، ويزيد من عبء الدين العام على المدى
الطويل.
* **هبوط مؤشر بورصة باريس:** كرد فعل فوري من الأسواق المالية،
انخفض مؤشر "كاك 40" في بورصة باريس بصورة حادة بأكثر من 2% يوم الاثنين
الماضي. يعكس هذا الهبوط قلق المستثمرين إزاء تأثير الأزمة السياسية على السياسات
الاقتصادية والمالية، وينذر بخسائر أكبر إذا استمرت حالة عدم اليقين.
* **تباطؤ منح قروض الرهن العقاري:** أشار المحلل الاقتصادي مارسيل
يو إلى أن "المهزلة السياسية الحالية ستكون لها عواقب وخيمة على الفرنسيين
خلال الأشهر المقبلة، إذ ستبطئ البنوك منح قروض الرهن العقاري لأنها لا تريد أن
تبقى عالقة بقروض ذات فائدة ثابتة لمدة 25 عامًا". هذا التباطؤ سيؤثر سلبًا
على سوق العقارات وعلى قدرة الأفراد على امتلاك المنازل.
* **انخفاض الاستهلاك وارتفاع معدلات الادخار:** مع تزايد حالة عدم
اليقين، يتوقع أن يستمر الشعب الفرنسي في زيادة معدلات الادخار، والتي بلغت بالفعل
مستوى قياسيًا عند 19%. ورغم أن الادخار مهم، إلا أن ارتفاعه على حساب الاستهلاك
يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي، حيث أن الاستهلاك يمثل مكونًا رئيسيًا للناتج
المحلي الإجمالي.
* **زيادة حالات إفلاس الشركات:** يتوقع مارسيل يو "69 ألف
حالة إفلاس للمؤسسات هذا العام، وهو رقم قياسي محزن". تتخلف فرنسا بالفعل عن
شركائها الآخرين في منطقة اليورو، ولا سيما إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، في مؤشرات
التعافي الاقتصادي. إن غياب الموازنة المستقرة سيشكل "الطفل غير الشرعي
لحكومة ماكرون"، ومن المرجح أن يستغرق التعافي المالي أعوامًا.
* **تراجع قيمة اليورو:** تفاقمت الأزمة السياسية الفرنسية حال عدم
اليقين الاقتصادي والسوقي، مع وجود مخاطر على النمو والامتثال لقواعد الاقتراض
الأوروبية. تراجع اليورو يوم الاثنين الماضي، متأثرًا بالاستقالة المفاجئة لرئيس
الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو. وقالت مديرة الأبحاث في "إكس تي بي"،
كاثلين بروكس، إن "صدمة السوق بسرعة فشل المحاولة الأخيرة لتشكيل الحكومة"
أدت إلى "هبوط حاد في قيمة اليورو، بعد أن خسر ما يقارب 0.80 في المئة مقابل
الدولار". هذا التراجع يؤثر على القوة الشرائية للعملة الأوروبية الموحدة وعلى
مكانة منطقة اليورو ككل.
**تحديات أمام إقرار الموازنة في برلمان منقسم**
يسلط المحلل الاقتصادي
أنطوان أدرياني الضوء على المشكلة الأساسية: "لا تزال المشكلة الرئيسة قائمة،
فكيف يمكن إقرار موازنة في برلمان منقسم؟". فمشروع الموازنة الحالي، الذي
استُلهم في الغالب من موازنة فرانسوا بايرو التي أُسقطت حكومته قبل شهر، يواجه
معارضة واسعة من جميع الكتل النيابية، من التجمع الوطني إلى اليسار. جميع هذه
الكتل لديها "موازنات مضادة"، ولكن لا توجد موازنة واحدة تحظى بإجماع. هذا
يعني أنه ما لم يحل البرلمان وتُشكل حكومة غالبية، فلن تكون أية موازنة قابلة
للتطبيق.
- الموازنة التي ستتضمن حتمًا "خفوضًا في الموازنة غير مرغوب فيها، إضافة إلى زيادات ضريبية
- لخفض العجز"، ستواجه مقاومة شديدة. المستثمرون يخشون "تأثير الدومينو في السياسة الاقتصادية
- والموازنة"، مما يجعلهم أكثر حذرًا في تعاملاتهم مع فرنسا.
**خاتمة دعوة للاستقرار ومعالجة الأزمة**
إن الوضع الراهن في فرنسا يعكس تحديًا كبيرًا أمام الديمقراطيات الحديثة، حيث يمكن للشلل السياسي أن يعرقل بشكل مباشر الأداء الاقتصادي للدولة ويُحدث تداعيات بعيدة المدى. تكمن الحاجة الملحة في إيجاد حلول سياسية سريعة وفعالة لتشكيل حكومة مستقرة قادرة على إقرار الموازنة المطلوبة.
فبدون موازنة واضحة المعالم، ستظل فرنسا في مهب الريح
الاقتصادية، وستتعرض مكانتها الأوروبية والعالمية لمزيد من التدهور. إن استعادة
الثقة في الاقتصاد الفرنسي تتطلب استعادة الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي
ينتظره الشعب الفرنسي والمجتمع الدولي بفارغ الصبر.