recent
أخبار ساخنة

العينُ ذاتُ الزرقةِ الخارقةِ: حكايةُ المصريينَ والحسد

 

 

العينُ ذاتُ الزرقةِ الخارقةِ: حكايةُ المصريينَ والحسد

 

لا شكّ أنّ الخوفَ من قوى الشرّ المُختلفةِ قد رافقَ الإنسانَ على مرّ العصورِ، ففي كلّ مكانٍ وفي كلّ زمانٍ، سعى الإنسانُ جاهدًا إلى الحمايةِ من هذه القوىِ، والتحصينِ من أضرارها، وكانَ ذلكَ الهاجسَ الرئيسيّ عندَ قدماءِ المصريينَ الذينَ تركوا لنا إرثًا غنيًّا من الأدلةِ على كيفيةِ قيامهمِ بالسعيِ إلى الحمايةِ من الشرورِ، وقد تَجَلّى ذلكَ في معابدهمِ وأضرحتهمِ وعاداتهمِ وتقاليدهمِ.



Eye and envy
العين والحسد

ومع مرورِ الزمنِ، تغيّرتِ المفاهيمُ والتصوّراتُ، ولكنّ قلقَ الناسِ من قوى الشرّ المُختلفةِ لم يتغيرْ، بل تَطورَ معَ تطورِ المجتمعِ، فاليومَ يُواجِهُ المصريّونَ المخاوفَ نفسهاَ تقريبًا، ولكنَ بِطرقٍ وأساليبَ جديدةٍ، وتَظلّ فكرةُ الحسدِ من أهمّ المخاوفِ التي تُطاردهمْ، وتُرّسخْ في تصوّراتهمِ عن العالمِ المُحيطِ بهمْ.

 

فما هي حكايةُ المصريينَ والحسدِ؟ وكيفَ تَجَلّى الخوفُ منهُ في ثقافتهمِ، ورسخَ جذورهُ في عقائدهمِ وتقاليدهمِ؟


الأصولُ القديمةُ

 

يُعَدّ الخوفُ من الحسدِ أحدَ أهمّ السماتِ التي تُميّزُ المجتمعَ المصريّ، وتَمتدّ جذورهُ إلى العصورِ القديمةِ، حيثُ كانَ يُمثّلُ هاجسًا كبيرًا بالنسبةِ للمصريينَ، فلم تكنْ سوى عقيدةٍ قويةٍ مُترسّخةٍ في أذهانهمْ، يُؤمنونَ بها إيمانًا راسخًا، ويُجسّدُها الفراعنةُ في رموزٍ وطقوسٍ مُختلفةٍ.

 

  • فمن أهمّ الرموزِ المرتبطةِ بالتحصينِ من الحسدِ عندَ قدماءِ المصريينَ،
  •  عينُ حورسِ الزرقاءُ الشهيرةُ، التي ترتبطُ بأسطورةِ إيزيسِ وأوزوريسِ،
  •  فبعدَ أن قَتلَ ستُ أخاهُ أوزوريسَ ومزّقَ جثمانَهُ،
  • استطاعتْ إيزيسِ إعادةَ جمعِ أشلائهِ من الأنحاءِ المُتفرّقةِ في البلادِ
  •  لِتنجبَ بعدها ابنَها حورسَ، الذي استطاعَ الانتصارَ على ستّ،
  •  ولكنّهُ فَقدَ عينَهُ اليسرى، ليُستبدلَ بعينٍ زرقاءَ لها قوةٌ خارقةٌ،
  •  استخدمها المصريونَ منذُ أقدمِ العصورِ للحمايةِ من الشرّ والحسدِ،
  •  وفي الوقتِ نفسهِ، يُصوّرُ حورسُ على هيئةِ الصقرِ،
  •  ومن المعروفِ أنّ عينَ الصقرِ تفوقُ عينَ الإنسانِ بمراتٍ في قوةِ إبصارها.

 

تُشيرُ العديدُ منِ النقوشِ والرسوماتِ على جدرانِ المعابدِ المصريةِ القديمةِ إلى أنّ المصريينَ كانوا يُؤمنونَ بقوةِ العينِ، وخصوصًا العينِ الزرقاءِ، في حمايةِ الناسِ من الشرورِ والحسدِ، وكانوا يُدرجونَ هذهَ العينَ في تصاويرِ الآلهةِ، ويَرتدونَها في شكلِ تمائمَ أو خرزاتٍ، لاعتقادهمِ أنّها تُحصّنُهمِ منَ الأذىِ.

 

التأثيراتُ الدينيةُ

 

معَ ظهورِ الإسلامِ والمسيحيةِ، تَطورَ مفهومُ الحسدِ، وأصبحَ مرتبطًا بأقوالِ الكتابِ المقدسِ والقرآنِ الكريمِ، فِإذَ يَذكُرُ القرآنُ الكريمُ أنّ الحسدَ من الأمورِ المُحرّمَةِ، وأنّهُ يُؤثّرُ على الناسِ سلبًا، وأصبحَ من أهمّ المعالمِ التي يُعنى بها الدّينُ الإسلاميّ، ويَحرّمُ على المُسلمِ أنْ يَحسدَ أخاهُ، ويَذكُرُ سورةَ الفلقِ التي تُعتبرُ من أقوى الأدعيةِ التي تُحصّنُ الناسَ منَ الشرّ والحسدِ، وتَرددُها جميعُ المُسلمينَ للوقايةِ منَ شرّ الحسدِ.

 

وَتُؤكّدُ المسيحيةُ أيضًا على خطورةِ الحسدِ، وَتُحذّرُ من أضرارهِ على النفوسِ، وتَشجّعُ على التسامحِ والإيثارِ.

 

التراثُ الشعبيُّ والتقاليدُ

ولكنّ مفهومَ الحسدِ عندَ المصريينَ لم يَقتصرْ على الدّينِ والعقيدةِ، بل تَجَلّى أيضًا في التراثِ الشعبيِّ والتقاليدِ المُتوارثةِ عبرَ الأجيالِ، ففي كلّ مكانٍ يُوجدُ أمثالٌ شعبيةٌ، وقصصٌ مُتداولةٌ، وطقوسٌ تقليديةٌ، تُعبّرُ عنَ الخوفِ من الحسدِ وضرورةِ الحذرِ منهُ.

 

ومن أبرزِ العاداتِ والتقاليدِ التي اعتمدها المصريونَ عبرَ التاريخِ للحمايةِ من الشرورِ والحسدِ، نجدُ:

 

الخرزةُ الزرقاءُ (العينُ الزرقاءُ

واحدةٌ من أهمّ الرموزِ المرتبطةِ بالحمايةِ من الحسدِ، تَلقى رواجًا كبيرًا في المجتمعِ المصريّ، ويتمّ تعليقها أو ارتداؤها في شكلِ سلسلةٍ أو قلادةٍ، ويتمّ وضعها في البيوتِ والمحلاتِ التجاريةِ، لِاعتقادِ الناسِ أنّها تُبعدُ شرّ الحسدِ.

 

الكف خمسة

هي كفٌّ مفتوحةٌ يتمّ رسمُها أو نقشُها أو صنعُها منِ الموادّ المُختلفةِ، وتعليقها في البيوتِ أو ارتداؤها في شكلِ قلادةٍ أو خاتمٍ، تُعَدُّ من أشهرِ الرموزِ المرتبطةِ بالحمايةِ من الحسدِ، وترمزُ إلى قوةِ اللهِ، ومَدخَلُها إلى المجتمعِ المصريّ هوَ مَدخَلُها إلى كلّ منْ الدّينِ الإسلاميّ والمسيحيّ، ويُعتقدُ أنّها تَمنعُ الحسدَ منَ التأثيرِ على الإنسانِ.

 

الأحجبةُ

تُصنعُ الأحجبةُ منَ الموادّ المُختلفةِ، وتُكتبُ فيها أدعيةُ منَ القرآنِ الكريمِ أو منَ الكتابِ المقدسِ، وتُعلقُ للطفلِ أو توضعُ تحتَ رأسِ الشخصِ، وغالباً ما تُعلقُ في ملابسهِ من ناحيةِ اليسارِ لتكونَ قريبةً منَ القلبِ، ويُعتقدُ أنّها تُحصّنُ منَ الشرورِ والحسدِ.

 

البخورُ

 يُشعلُ المصريونَ البخورَ في المنازلِ، وخصوصًا صباحَ الجمعةِ، لِاعتقادهمِ أنّ لهُ تأثيرًا في طردِ الشياطينِ والحسدِ، وربما يكونُ ذلكَ مرتبطًا بِرائحةِ البخورِ المُستحبةِ، وربما لِعلاقتهِ بالطقوسِ القديمةِ التي كانت تُمارسُ في المعابدِ المصريةِ القديمةِ.

 

الزّيتُ المباركُ

 يُعتقدُ أنّ الزّيتُ المُباركَ المُستخرجَ منَ الكنائسِ أو المساجدِ لهُ قوةٌ خارقةٌ في طردِ الشياطينِ والحسدِ، ويُستخدمُ في مسحِ الجسمِ أو في رشّ المنزلِ.

 

عاداتٌ تقليديةٌ

 يُمارسُ المصريونَ عدّةَ عاداتٍ تقليديةٍ عندَ سماعِ أمرٍ مُبهّرٍ أو عظيمٍ، مثلَ مسكِ الخشبِ أو قولِ "ما شاء الله"،  و عندَ الاحتفالاتِ السعيدةِ مثلَ الزواجِ والنجاحِ والإنجابِ، يَحرصُ الناسُ على قولِ "حصوةَ ملحٍ في عينِ الحسود" أو "اسمَ اللهِ عليه"، لِاعتقادهمِ أنّ ذلكَ يَحصّنُهمِ منَ الحسدِ.

 

طرقٌ أخرى

 يُمارسُ المصريونَ طرقًا مُختلفةً للحمايةِ منَ الحسدِ، مثلَ تعليقِ قرنيّ الخروفِ على بابِ المنزلِ، أو وضعِ سباطةِ البلحِ أعلى المنزلِ لِاعتقادهمِ أنّها تُحميهمِ منَ الشرّ، وفِي النوبةِ جنوبًا، يَضعونَ التماسيحَ المحنطةَ على أبوابِ المنازلِ.

 

طاقةُ اللونِ الأزرقِ

 

يتّضحُ من خلالِ العاداتِ والتقاليدِ السابقةِ أنّ اللونَ الأزرقَ يُحظى بأهميةٍ خاصةٍ في ثقافةِ المصريينَ، فَهُوَ يُرتبطُ بِالوقايةِ منَ الحسدِ والشرورِ، ويرمزُ إلى قوّةِ عينِ حورسِ، التي تُعَدُّ من أقوىِ الرموزِ التي تُستخدمُ في حمايةِ الناسِ منَ الشرّ والحسدِ.

 

  1. ويتّضحُ ذلكَ من خلالِ انتشارِ الخرزةِ الزرقاءِ ("العينُ الزرقاءُ")
  2.  في كلّ مكانٍ في مصرَ،
  3.  ويَعتقدُ الكثيرُ منَ الناسِ أنّ لهُ قوةٌ خارقةٌ في طردِ الحسدِ،
  4.  وأنهُ يُبعدُ شرّ العينِ عنَ الإنسانِ،
  5.  وربما يكونُ ذلكَ أيضًا مرتبطًا بِأنّ اللونَ الأزرقَ
  6.  يُعَدُّ من الألوانِ الهادئةِ التي تُريحُ النفسَ، ويُبعدُ الضغطَ النفسيّ.

 

المفارقاتُ

 

وَتَظهرُ في ثقافةِ المصريينَ بعضُ المفارقاتِ في ما يتعلّقُ بالخوفِ منَ الحسدِ، فمن جهةٍ، يَؤمنونَ بقوةِ اللهِ في حمايةِ الناسِ منَ الشرورِ والحسدِ، ويشدّونَ على أهميةِ التوكلِ عليهِ، وِمن جهةٍ أخرى، يَعتمدونَ على العاداتِ والتقاليدِ والطقوسِ التقليديةِ للحمايةِ منَ الحسدِ، وربما يكونُ ذلكَ دليلاً على أنّ الخوفَ منَ الحسدِ هوَ خوفٌ عميقٌ جَذّرَ في نفوسِهمْ، ولم يُستطعْ القضاءُ عليهِ بسهولةٍ.

 

**أثرٌ على المجتمعِ:**

 

يُؤثّرُ الخوفُ منَ الحسدِ بشكلٍ كبيرٍ على حياةِ الناسِ في مصرَ، فيُؤدّي إلى انتشارِ العديدِ منِ السلوكياتِ والتصرفاتِ المُختلفةِ، مثلَ:

 

* **التباهيِ:**

فبعضُ الناسِ يَميلونَ إلى إخفاءِ النّعمِ التي يَمتلكونَها، خوفًا منَ الحسدِ، وبعضُهمْ يَحاولُ التباهيِ بها، لِإظهارِ قوّتهمِ، و لِمُحاولةِ ردعِ الحسادِ عنَ إلحاقِ الأذىِ بهمْ.

 

* **الكتمانِ:**

 يُفضّلُ بعضُ الناسِ كتمانَ الأمورِ السعيدةِ، مثلَ الزواجِ أو الولادةِ، خوفًا منَ الحسدِ، ويَختارونَ عدمَ مشاركةِ الآخرينِ فيَها.

 

* **الاحتفالاتِ الخفيفةِ:**

 يُقيمُ بعضُ الناسِ احتفالاتٍ خفيفةٍ، لِتجنّبِ لفتِ الانتباهِ، وَلِمُحاولةِ إبعادِ الحسادِ.

 

* **التمّـكّـرِ:**

 يُمكنُ أنّ يُؤدّي الخوفُ منَ الحسدِ إلى التّمكّرِ منَ الناسِ، وِاختلاقِ الأعذارِ، لِتجنّبِ مشاركةِ النّعمِ معَهمْ.

 

* **العلاجِ الشعبيّ:**

 يُلجأُ بعضُ الناسِ إلى العلاجِ الشعبيّ، وِاستخدامِ الأعشابِ والتمائمِ لِطردِ الحسدِ، وربما يكونُ ذلكَ دليلاً على أنّ الخوفَ منَ الحسدِ هوَ خوفٌ مُغروسٌ عميقًا في نفوسِهمْ.

 

**الخلاصةُ:**

 

تُشكّلُ فكرةُ الحسدِ عندَ المصريينَ مزيجًا مُثيرًا للفضولِ، فهوَ يَدمجُ بينَ الدّينِ والتراثِ الشعبيِّ والثقافةِ المُتوارثةِ منذُ أقدمِ العصورِ، ويمنحُ الأمرَ طابعًا مختلفًا عنَ أيةِ منطقةٍ عربيةٍ أخرى، فَمِن جهةٍ، نجدُ أنّ اعتقادَ المصريينَ بالحسدِ هوَ اعتقادٌ جَذريّ، مُستمدّ منَ العقيدةِ الدينيةِ والتقاليدِ القديمةِ، ومن جهةٍ أخرى، يَظهرُ أنّ الخوفَ منَ الحسدِ هوَ خوفٌ حقيقيّ، يُؤثّرُ بشكلٍ كبيرٍ على سلوكياتِ الناسِ وأفكارهمْ، ويُؤدّي إلى ظهورِ العديدِ منِ السلوكياتِ والممارساتِ المُختلفةِ في المجتمعِ المصريّ، ويَظلّ  تلكَ الظاهرةُ مُثيرَةً للاهتمامِ والبحثِ.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent