## "وما أدراك ما صيدنايا": وثيقة سينمائية تسبر أغوار جحيم المعتقلات السورية
في لحظة فارقة من تاريخ
سوريا المعاصر، ومع سقوط نظام البعث في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وجد
المخرج السوري عبدو مدخنة نفسه شاهداً وموثقاً لواحدة من أكثر اللحظات إنسانيةوإيلاماً: خروج آلاف المعتقلين من سجن صيدنايا العسكري، ذلك الصرح الذي اقترن اسمه
بالرعب الممنهج والانتهاكات الجسيمة. على مدار 122 دقيقة، هي عمر فيلمه الوثائقي
الطويل "وما أدراك ما صيدنايا"، يغوص مدخنة في كوابيس هذا المعتقل،
كاشفاً عن متاهته الأسمنتية المرعبة وظروف الاعتقال اللاإنسانية التي سادت لعقود.
![]() |
## "وما أدراك ما صيدنايا": وثيقة سينمائية تسبر أغوار جحيم المعتقلات السورية |
نظرة مخرج
بل تجرأت لتلتقط المشهد من منظور السجان أحياناً، خالقةً بذلك لعبة ثنائية بصرية تزيد
من عمق التجربة وقسوتها. ولم يكتفِ بالتوثيق التسجيلي المباشر، بل عمد إلى دمج مشاهد
تمثيلية متقنة تحاكي بدقة ظروف الاعتقال، حفلات التعذيب اليومية، والإعدامات
الميدانية التي كانت تجري داخل أسوار السجن المشؤوم، الواقع على بعد 30 كيلومتراً
شمال غربي دمشق.
- يستعرض الفيلم شهادات حية وصادمة لأفراد عايشوا هذا الجحيم. سجناء سابقون، وآخرون كُتبت لهم
- حياة جديدة بعد تحريرهم، يروون تفاصيل مروعة عن سنوات الاعتقال الطويلة. من بينهم محمد علي
- عيسى، الذي أمضى 19 عاماً في زنزانة انفرادية، يشاركنا لمحات من ذاكرته المثقلة بالخوف
- والجوع وصراخ رفاقه المعذبين. هذه الشهادات، إلى جانب لقاءات مع أهالي المعتقلين الذين قضوا
- سنوات يبحثون عن أي أثر لذويهم في سراديب السجن التي شُيدت عام 1987، تشكل العمود الفقري
- للفيلم.
دهاليز السجن
بلقطات متتابعة وسريعة، تنقل لنا مجاهل صيدنايا وأروقته التي تفوح منها رائحة الموت واليأس. ترصد الكاميرا كتابات ومذكرات خطها السجناء على الجدران، كرسائل وداع أخيرة أو كشواهد على أرواح أزهقت. يتكشف لنا بناء ضخم مكون من ثلاث طبقات، يشبه في تصميمه المروحة أو شعار شركة مرسيدس، وهو عبارة عن غابة من الحديد والأقفاص والسلالم والأبواب المحصنة.
- يكاد المشاهد يسمع صرخات بشرية مدوية تختلط بقعقعة السلاسل
- خاصة عند الولوج إلى الحجرات المعتمة التي استخدمت كمنصات للإعدام الميداني
- حيث تظهر حبال المشانق معلقة كشاهد أبكم.
أحد السجناء المحررين
يعمل كدليل لفريق التصوير، يرشدهم إلى حيث كانت تمارس أبشع أنواع التعذيب، وآخر
يقودهم إلى زنزانات تحت الأرض لا يصلها هواء ولا نور شمس، حيث رائحة الجثث
المتفسخة وآثار الدماء المتيبسة تملأ المكان. وفي هذا السياق، يصف رائد الصالح،
مدير الدفاع المدني السوري، سجن صيدنايا بـ "الهولوكوست السوري"، مشيراً
إلى انعدام أدنى شروط الحياة الإنسانية، وحاجة العديد من المحررين إلى علاج نفسي
وجسدي مكثف في مستشفيات ومصحات عقلية
تصوير الرعب
يكشف نايف الحسن، مسؤول
غرف تبريد الجثث في مستشفى المجتهد بدمشق، كيف كانت جثث السجناء تُنقل إلى
المستشفى، وتُزوّر شهادات وفاتها، ثم تُدفن سراً في مقابر جماعية بمنطقة القطيفة
قرب دمشق. يلتقي المخرج بحفار قبور عمل في تلك المواقع، وتطل الكاميرا عبر لقطات
جوية على هذه الأماكن التي كانت تخضع لحراسة مشددة ومزودة بمعدات تشويش لإخفاء
معالم الجريمة.
- كما يتتبع الفيلم، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية وعُرض مؤخراً في دار الأوبرا السورية، قصة منار
- شخاشيرو، سيدة سورية شابة، تبحث بيأس بين ركام الوثائق التي خلفها السجانون عن أي أثر لزوجها
- المفقود منذ عام 2012، ممثلةً بذلك مئات العائلات التي لا تزال تجهل مصير أحبائها.
ولا يغفل الفيلم عن
الإشارة إلى ما عُرف بـ "السجن الأحمر"، مسرح العصيان الدامي الذي شهده
المعتقل في يوليو (تموز) 2008، والذي انتهى بمجزرة راح ضحيتها العديد من السجناء
وعناصر الأمن. يستند الفيلم إلى هذا الحدث المفصلي في بناء تعليقه الصوتي وترتيب
سرديته، مقدماً استقصاءً دقيقاً لشهادات تظهر للمرة الأولى منذ سقوط نظام بشار
الأسد.
يختتم "وما أدراك ما صيدنايا"
بمشهد مؤثر لأحد السجناء يروي لحظة تحريره وخطواته الأولى خارج
أسوار السجن وحقول الألغام المحيطة به. ثم تنتقل الكاميرا إلى لقطة عمودية شاملة
لبناء السجن ومحارسه ونقاط تفتيشه، وقد خلا من سجانيه، لكنه لم يخلُ من أهالي
المفقودين والمغيبين قسراً، الذين يتوافدون إليه منذ أشهر، متشبثين بخيط أمل واهٍ
للعثور على ما يدلهم إلى أبنائهم.
الختام
إن "وما أدراك ما
صيدنايا" ليس مجرد فيلم وثائقي، بل هو مرثية بصرية، وشهادة تاريخية موجعة
يسجلها الفنان عبدو مدخنة، مواصلاً مسيرته المتميزة بعد فيلمه "صراع البقاء"
الحائز على جائزة الدولفين الفضي في مهرجان كان عام 2023. إنه صرخة مدوية في وجه
النسيان، ووثيقة ضرورية لفهم حجم المأساة السورية، وخطوة على طريق طويل نحو
العدالة وكشف الحقيقة.