### **مقصلة الذاكرة: حين تحاكم السوشيال ميديا أخلاق السينما المصرية الكلاسيكية**
في فضاء الذاكرة الجمعية المصرية، تحتل أفلام "الزمن
الجميل" مكانة أيقونية، فهي ليست مجرد أعمال فنية، بل هي كبسولات زمنية تحفظ
ملامح مجتمع، وأناقة حقبة، وبساطة علاقات إنسانية تبدو اليوم بعيدة المنال. لكن
هذا الإرث السينمائي الذي شكل وجدان أجيال، يواجه اليوم نوعاً جديداً من المحاكمة،
ليس في أروقة النقد الأكاديمي، بل في الساحة الصاخبة لوسائل التواصل الاجتماعي،
حيث تُنصب له مقصلة أخلاقية بأثر رجعي، وتُصدر عليه أحكام قيمية متسرعة، منفصلة عن
سياقاتها التاريخية والفنية.
![]() |
### **مقصلة الذاكرة: حين تحاكم السوشيال ميديا أخلاق السينما المصرية الكلاسيكية** |
- هذه الظاهرة، التي تحولت من مجرد تعليقات عابرة إلى موجة شبه منظمة، تثير تساؤلات عميقة
- حول علاقتنا بماضينا الثقافي، وطبيعة الخطاب العام في العصر الرقمي، والأهم من ذلك، ما الذي
- تكشفه هذه المحاكمات الشعبوية عن التحولات التي طرأت على المجتمع المصري نفسه؟
#### **من النوستالجيا إلى الرقابة تحولات الخطاب النقدي الشعبي**
في الماضي القريب، كانت إعادة استهلاك الأفلام
الكلاسيكية تتراوح بين حنين دافئ (نوستالجيا) وسخرية بريئة. كان الجمهور يتغنى
بأناقة فاتن حمامة، ووسامة عمر الشريف، ويتندر على بعض "الهنات" الإخراجية
أو الأخطاء في الديكور، أو حتى يضحك على مفردات لغوية انقرضت من قاموسنا اليومي. كان
هذا تفاعلاً طبيعياً مع مادة ثقافية تنتمي لزمن آخر.
- لكن ما نشهده اليوم هو تحول جذري في طبيعة هذا التفاعل. انتقل الخطاب من التفنيد المنطقي
- لمصطلح "الزمن الجميل" ذاته - بالإشارة إلى وجود أفلام تجارية ضعيفة آنذاك - إلى هجوم أخلاقي
- ممنهج. أصبحت مقاطع الفيديو القصيرة على منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" هي الساحة
- المفضلة لتلك المحاكمات. يتم اقتطاع مشهد من سياقه، وتُضاف إليه تعليقات تدين الشخصيات
- وتستنكر أفعالها، وكأنها دعوات مباشرة للفسق أو الخيانة.
فيلم "نهر الحب" (1960)، المقتبس عن رائعة تولستوي "آنا كارنينا"، يُختزل في كونه "تبريراً للخيانة الزوجية". يتم تجاهل السياق الدرامي بالكامل: الزواج القسري، القسوة النفسية للزوج، الحرمان من الأمومة، والضغط المجتمعي الخانق الذي دفع البطلة "نوال" إلى حافة الانهيار.
بل يُتجاهل أن الفيلم نفسه يفرض نهاية مأساوية على البطلة كعقاب قاسٍ على خيارها، وهو ما يتماشى مع الأعراف الاجتماعية لتلك الفترة.
وبالمثل، يُوصم فيلم "الحب الضائع" (1970) بأنه "ترويج لسرقة الأزواج وخيانة الصديقات"، متجاهلين عمق المأساة الإنسانية والصراع النفسي الذي تعيشه الشخصيات. أما فيلم "أنا حرة" (1959)، الذي كان صرخة نسوية رائدة في وقته تدعو لتعليم المرأة واستقلالها، فيُقرأ اليوم من قبل البعض على أنه دعوة للتمرد والانحلال.
- القائمة تطول لتشمل "الثلاثة يحبونها" و"أيامنا الحلوة"
- حيث تُجرد الشخصيات من دوافعها
الإنسانية وتُقدم كرموز للسقوط الأخلاقي.
#### **المفارقة التاريخية الحكم على الماضي بمعايير الحاضر**
يكمن الخلل الجوهري في هذا النوع من "النقد"
في وقوعه في فخ "المفارقة التاريخية" (Anachronism)، أي إسقاط القيم
والمعايير الاجتماعية السائدة اليوم على فترة زمنية مختلفة تماماً. إن هؤلاء "النقاد
الجدد" يتجاهلون أن السينما هي مرآة عصرها، وأن ما كان مقبولاً أو مطروحاً
للنقاش في الخمسينيات والستينيات يختلف جذرياً عن اليوم.
- توضح أستاذة الدراما والنقد، الدكتورة أسماء يحيى الطاهر عبد الله، أن هذا المنطق المغلوط يتغافل
- عن أنماط الحياة السائدة وقتها. فالملابس التي تظهر بها البطلات، وطريقة التفاعل الاجتماعي، وحتى
- ارتياد "البارات" في الأفلام
لم تكن مشاهد صادمة، بل كانت جزءاً من توثيق حياة شرائح معينة من
المجتمع، خاصة الطبقات الوسطى والعليا في المدن الكبرى. الفن، كما تؤكد، ليس أداة
ترويج أو كتيب إرشادات أخلاقية، بل هو أداة توثيق فني وفضاء لاستكشاف تعقيدات
النفس البشرية وتجاربها المتنوعة، بما فيها لحظات الضعف والخطأ.
- إن الحكم على شخصية "أمينة" في "أنا حرة" من منظور اليوم المحافظ، يتجاهل تماماً أنها كانت تمثل
- جيلاً من النساء بدأ يطرق أبواب التعليم والعمل ويطالب بحقه في الاختيار، في سياق مجتمع كان
- يشهد
تحولات كبرى. كانت هذه الأفلام جزءاً من حوار مجتمعي أوسع، لا يمكن فهمها إلا من
خلاله.
#### **جذور الردة الأخلاقية إرث السبعينيات وثقافة الخوف**
للإجابة على سؤال "لماذا الآن؟"، لا
بد من العودة إلى الوراء قليلاً. ترى الناقدة الفنية ماجدة موريس أن هذه الظاهرة
هي إحدى تجليات "الردة الأخلاقية" التي بدأت جذورها في السبعينيات مع
صعود تيارات الإسلام السياسي والمحافظ. تشير موريس إلى أن حقبتي الخمسينيات والستينيات
شهدتا انفتاحاً ثقافياً وفكرياً أكبر، بفضل مشروع الدولة القومية وانتشار التعليم
ومنافذ الثقافة.
- لكن بدءاً من السبعينيات، بدأ هذا الفضاء العام في الانكماش، وتسللت أفكار أكثر انغلاقاً وتحفظاً،
- ونشأت "ثقافة الخوف من الخطأ"، حيث أصبح كل فعل أو قول بحاجة إلى فتوى أو حكم قيمي مسبق
- . وتذكرنا موريس بالشيخ كشك، الذي يمكن اعتباره رائداً لهذا النوع من الهجوم، حيث كان يستخدم
- شرائط الكاسيت لمهاجمة الفنانين شخصياً بناءً على أدوارهم أو كلمات أغانيهم، وهو ما يتشابه إلى حد
- كبير مع ما يفعله "مؤثرو" السوشيال ميديا اليوم.
هذه النظرة المتعالية والمتعصبة لا ترى في الفن
إلا أداة للإصلاح الأخلاقي المباشر أو للإفساد. وعندما لا يجد هذا التيار ما
يهاجمه في الإنتاج المعاصر، الذي أصبح بالفعل أكثر حذراً وتأثراً بالرقابة الذاتية
والمجتمعية، فإنه يتجه إلى الأرشيف، ليبحث عن "خطايا" الماضي ويقيم لها
المشانق الافتراضية.
#### **محركات العصر الرقمي من "ثقافة الإلغاء" إلى اقتصاد "التريند"**
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن آليات عمل وسائل
التواصل الاجتماعي نفسها. فالخوارزميات مصممة لتكافئ المحتوى المثير للجدل والذي
يولد تفاعلاً، سواء كان إيجابياً أو سلبياً. إن نشر مقطع فيديو بعنوان "شاهد
كيف دمرت سعاد حسني أخلاق المجتمع" هو وصفة مضمونة للحصول على آلاف المشاهدات
والتعليقات والمشاركات. إنه "اقتصاد الانتباه" في أبشع صوره، حيث يتم
التضحية بالسياق والدقة من أجل تحقيق الانتشار (التريند).
- كما أن هذا السلوك يتقاطع مع "ثقافة الإلغاء" (Cancel Culture) العالمية، التي ترفض التسامح أو
- فهم السياق، وتكتفي بإصدار أحكام إقصائية فورية. يتم اغتيال الشخصيات (الحقيقية أو الدرامية)
- معنوياً، وإغلاق أي باب للنقاش أو المراجعة. الحكم على شخصيات الأفلام من هذا المنطلق يعزز
- ثقافة عدم التسامح ويقدم نموذجاً مبسطاً للعالم، مقسماً بين الخير المطلق والشر المطلق، وهو ما
- يتنافى مع جوهر التجربة الإنسانية التي يسعى الفن لاستكشافه.
#### ** بين المقصلة والمرآة**
في نهاية المطاف، فإن الهجوم الأخلاقي على
السينما الكلاسيكية لا يكشف عن "انحلال" تلك الأفلام بقدر ما يكشف عن
قلق مجتمعي معاصر، وعن فجوة معرفية وتاريخية، وعن سيطرة خطاب شعبوي اختزالي يخشى
التعقيد ويقدس الأحكام الجاهزة.
- إن خطورة هذا التوجه لا تكمن فقط في تشويه إرث فني عظيم، بل في ترسيخ عقلية ترفض الحوار مع
- الآخر المختلف، وتضيق الخناق على الإبداع المستقبلي. فالمنتج الفني الذي يخشى تقديم شخصيات
- رمادية ومعقدة خوفاً من المقصلة الأخلاقية، سيتحول حتماً إلى منتج دعائي مسطح وفاقد لأي قيمة
- فنية حقيقية.
الختام
بدلاً من أن نضع ماضينا الفني في قفص الاتهام،
ربما الأجدر بنا أن نستخدمه كمرآة، لا لنرى فيه خطايانا المزعومة، بل لنفهم من
خلاله رحلتنا ك مجتمع، بتحولاتها وتناقضاتها وثرائها. فالمأساة الحقيقية ليست في "خيانة"
نوال في "نهر الحب"، بل في أن نفقد القدرة على فهم لماذا أحببناها
وتعاطفنا معها يوماً ما، وفي أن نغلق نافذة الفن التي تطل على أعماق الروح
الإنسانية بكل تعقيداتها.