# هل أصبحت الليرة التركية ضحية ترويض التضخم؟ تحليل شامل لمسار العملة والسياسة النقدية
## مقدمة: الليرة التركية في مسار تاريخي من التراجع
يواجه الاقتصاد التركي تحديات مزمنة، أبرزها التضخم المرتفع وتدهور قيمة العملة المحلية. على الرغم من أن
الأداء العالمي للدولار الأميركي قد شهد بعض التراجع، إلا أن الليرة التركية تواصل
انزلاقها نحو مستويات قياسية جديدة، مؤكدة مكانتها كواحدة من أضعف العملات أداءً
على مستوى الأسواق الناشئة.
![]() |
# هل أصبحت الليرة التركية ضحية ترويض التضخم؟ تحليل شامل لمسار العملة والسياسة النقدية |
# هل أصبحت الليرة التركية ضحية ترويض التضخم؟ تحليل شامل لمسار العملة والسياسة النقدية
هذا التراجع البطيءوالمستمر ليس صدفة، بل هو نتاج سياسة اقتصادية مدروسة تهدف إلى إدارة ضعف العملة
بطريقة منظمة، طالما أن وتيرة الانخفاض تظل أقل من معدلات التضخم السنوية
المستعصية. يثير هذا المسار تساؤلات حول فعالية "التشديد النقدي" الذي
يتبناه البنك المركزي التركي، وحول ما إذا كانت الليرة قد أصبحت فعلياً "ضحية"
ضرورية في معركة ترويض الأسعار التي تخوضها الحكومة التركية.
يتناول هذا التحليل
الشامل الأداء الأخير للعملة، واستراتيجيات البنك المركزي التركي، ودلالات أرقام
التضخم الأخيرة، والمخاطر التي تواجه الاقتصاد التركي في ظل هذه المعضلة المزدوجة.
## الأداء التاريخي لليرة في مواجهة الدولار
إن مسار الليرة التركية
مقابل الدولار الأميركي يعكس حالة من الضعف الممنهج. منذ بداية عام 2023، وصلت
العملة إلى أدنى مستوياتها التاريخية مقابل الدولار بشكل شبه يومي، بمعدل انخفاض
مستمر وقابل للتنبؤ.
**بيانات الانزلاق القياسية**
في التعاملات الأخيرة،
هوت الليرة لتسجل مستوى قياسياً منخفضاً مقابل الدولار، لتتجه بذلك نحو تسجيل
خسائر للأسبوع الخامس عشر على التوالي. وقد بلغت خسائر العملة التركية منذ بداية
العام الجاري 16 في المئة، وهي نسبة ضخمة تعكس تآكلاً مستمراً في القوة الشرائية.
- وفقاً لحسابات وكالة "بلومبيرغ"، فإن متوسط الخسائر اليومية لليرة بلغ حوالي 0.08 في المئة على
- مدار الأشهر الستة الماضية، مما يؤكد أن السلطات تسمح بـ "انخفاض مُدار" بدلاً من السماح بتقلبات
- حادة غير مسيطر عليها، وهي استراتيجية تهدف إلى بناء الثقة في مسار العملة المستقبلي، على الرغم
- من أن هذا المسار يتجه نحو الأسفل.
## استراتيجية البنك المركزي بين التشديد اللفظي والتيسير الفعلي
لإدارة هذا الانخفاض، يعتمد البنك المركزي التركي على سياسة نقدية مزدوجة تبدو متناقضة ظاهرياً: تشديد لفظي للموقف النقدي مع الاستمرار في دورة خفض أسعار الفائدة.
**تعهدات استقرار
الأسعار:**
أكد محافظ البنك المركزي التركي، فاتح قره خان، التزام البنك المطلق بالهدف الأساسي، وهو استقرار
الأسعار. وشدد قره خان على أن البنك "لن يسمح لظروف الطلب بعرقلة مسار خفض
التضخم"، وأن الموقف النقدي سيبقى متشدداً حتى تحقيق الهدف. ووفقاً
لتصريحاته، فإن هذا الموقف سيعزز عملية خفض التضخم من خلال قنوات محددة: الطلب
المحلي، سعر الصرف، والتوقعات السوقية.
**مفارقة خفض الفائدة:**
على الرغم من التضخم
المرتفع، واصل البنك المركزي التركي دورة التيسير النقدي خلال الشهر الماضي. فقد
قرر البنك خفض سعر إعادة الشراء لأجل أسبوع (وهو سعر الفائدة الرئيس) إلى 40.5 في
المئة من 43 في المئة، وهي خطوة جاءت أكبر من توقعات العديد من المستثمرين.
- تبرير البنك لهذه الخطوة يعتمد على تحليل تفصيلي للبيانات، حيث ترى لجنة السياسة النقدية أن
- **"الاتجاه الأساسي للتضخم تباطأ"** خلال أغسطس الماضي، وأن نمو الناتج المحلي الإجمالي في
- الربع الثاني تجاوز التوقعات، لكن "الطلب المحلي النهائي بقي ضعيفاً".
هذا التحليل يشير إلى أن ضغوط الأسعار الناتجة من الطلب منسجمة مع مسار انخفاض
التضخم، مما يمنح البنك مساحة للمضي قدماً في خفض الفائدة لتنشيط النمو.
لكن هذه الخطوات لم تمر
دون نقد، حيث دفعت بنوكاً عالمية كبرى مثل "جيه بي مورغان تشيس أند كو" و"مورغان
ستانلي" إلى إعادة النظر وخفض توقعاتها بشأن الحجم المستقبلي لخفض الفائدة،
ما يشير إلى قلق السوق من أن البنك يسارع وتيرة التيسير أكثر مما يتطلبه الوضع
الاقتصادي.
## التقدير الحقيقي (Real Appreciation) استراتيجية إدارة الضعف
تنتهج الحكومة التركية
سياسة اقتصادية حاسمة تعرف باسم "التقدير الحقيقي" (Real
Appreciation). هذه السياسة لا تعني بالضرورة أن قيمة
الليرة ترتفع اسمياً، بل تعني أن الحكومة تستهدف إبقاء خسائر الليرة الاسمية **دون
معدل تضخم أسعار المستهلك (CPI)**.
**آلية التقدير الحقيقي:**
الهدف من هذه
الاستراتيجية هو تحقيق توازن دقيق: السماح لليرة بالانخفاض لتظل الصادرات التركية
تنافسية في الأسواق العالمية، ولكن الانخفاض يجب أن يكون أبطأ من ارتفاع الأسعار
المحلية. من الناحية الاقتصادية، هذا يعني أن القيمة الحقيقية لليرة (معدلة حسب
التضخم) يتم تعزيزها أو تثبيتها، مما يساهم نظرياً في كبح جماح التضخم المستورد.
ومع ذلك، أشار المحللون
في مجموعة "إيست كابيتال" إلى أن ما يهم المستثمرين الآن يتمحور حول
نقطتين رئيسيتين:
1. ما إذا كان لدى البنك المركزي احتياطات كافية للتدخل وضمان **انخفاض
منظم** في قيمة العملة.
2. وتيرة هذا الانخفاض ودرجة **قابليته للتنبؤ**.
إذا استطاع البنك المركزي الحفاظ على صلة ثابتة ومنظمة بين وتيرة التضخم وانخفاض قيمة الليرة، فإن ذلك يعني استمراراً في مسار انخفاض قيمة ثابت، مما يحافظ على عوائد حقيقية (وإن كانت متناقصة تدريجياً) للمستثمرين.
**إسقاط الإشارة الصريحة**
تجدر الإشارة إلى أن
البنك المركزي أسقط مؤخراً إشارة صريحة في بياناته تشير إلى سعيه لتحقيق ارتفاع
حقيقي في قيمة الليرة. على الرغم من أن هذه السياسة كانت "حجر الزاوية" في
إطار عمل صانعي السياسات النقدية، فإن إزالتها تشير إلى مرونة أكبر في إدارة سعر
الصرف، مع التأكيد على أن المسار سيعتمد بدلاً من ذلك على خفض التضخم عبر القنوات
المذكورة (الطلب، سعر الصرف، التوقعات).
## قفزة التضخم تحدي الأرقام المستعصية
تظل المعضلة الأساسية
التي تواجه البنك المركزي هي استمرار ارتفاع التضخم بوتيرة سريعة. تسارع التضخم
السنوي في تركيا للمرة الأولى منذ أكثر من عام، مسجلاً قفزة واضحة خلال سبتمبر
الماضي.
**أرقام تفوق التوقعات**
وفقاً لبيانات معهد
الإحصاء التركي، قفز معدل التضخم السنوي إلى **33.29 في المئة** خلال سبتمبر،
متجاوزاً بذلك التقديرات والتوقعات. هذا الارتفاع جاء مدفوعاً بزيادات حادة ومؤلمة
للمستهلكين في أسعار المواد الغذائية، والإسكان، والتعليم، ما يشير إلى أن ضغوط
الأسعار ليست مجرد نتاج لقضايا مؤقتة، بل هي ضغوط هيكلية واسعة النطاق.
- شهد الشهر الماضي أول ارتفاع في المعدل السنوي منذ الذروة التي سجلت 75.4 في المئة في مايو من
- العام الماضي. ومع معدل تضخم شهري بلغ 3.23 في المئة، فإن استمرار البنك في دورة التيسير
- النقدي، على الرغم من هذه الأرقام، يضع مصداقية البنك المركزي تحت المجهر.
ويرى نايك ريس، رئيس
أبحاث الاقتصاد الكلي في شركة "مونكس يوروب"، أن الإشارات المتضاربة من
البنك (التشديد اللفظي والتيسير الفعلي) قد تشكل "محاولة شكلية للاعتراف
بمخاوف السوق، مع الاستمرار في تسريع وتيرة التيسير النقدي"، وهو ما يتوقع أن
يواصل تشكيل ضغط هبوطي على الليرة خلال الأشهر المقبلة.
## المخاطر الهيكلية وعدم اليقين السياسي
لا تقتصر الضغوط على الليرة
التركية على العوامل النقدية والاقتصاد الكلية فحسب، بل تمتد لتشمل المخاطر
الهيكلية والسياسية المتزايدة.
**التقلبات الضمنية
ومخاوف السوق:**
على الرغم من الانخفاض
الممنهج، لا يزال التقلب الضمني في زوج الدولار/الليرة ضعيفاً، إذ يحوم حول أدنى
مستوياته منذ مارس 2025. هذا الضعف في التقلب يعكس سيطرة البنك المركزي على مسار
الانخفاض، لكنه لا يلغي حالة عدم اليقين الجوهرية.
**الاضطراب السياسي:**
يواجه المراقبون للشأن
في تركيا حالاً من عدم اليقين السياسي المتصاعد، لا سيما في ظل المواجهة المحتدمة
بين الحزب المعارض الرئيس في البلاد والسلطة القضائية. مثل هذه الاضطرابات
السياسية غالباً ما تترجم إلى حالة من نفور المخاطرة، مما يؤدي إلى موجة بيع في
الأصول المحلية، خاصة السندات والأسهم، مما يزيد من الضغط على الليرة ويدفع
المستثمرين الأجانب إلى التردد في ضخ رؤوس أموال جديدة.
## آفاق المستقبل هل تستقر الليرة في مسارها الجديد؟
إن تراجع الليرة
التركية هو ثمن ترويض التضخم. تتبنى أنقرة الآن استراتيجية السماح لليرة بالانخفاض
ببطء وبطريقة منظمة، مستهدفة أن يكون الانخفاض أبطأ من التضخم السنوي. هذه السياسة
تهدف إلى توفير وسادة تنافسية للصادرات مع محاولة الحفاظ على قدر من السيطرة على
الأسعار المستوردة.
- ومع ذلك، يظل التحدي يكمن في مدى قدرة البنك المركزي على الاستمرار في دورة التيسير النقدي
- خاصة وأن أرقام التضخم لا تزال عنيدة وتفوق التوقعات. إذا ما استمر التضخم في التسارع، قد
- يضطر البنك المركزي إلى إعادة النظر في وتيرة خفض الفائدة، أو حتى التوقف المؤقت، لتحقيق
- التوازن بين النمو واستقرار الأسعار.
فى الختام
على المدى القريب، من
المتوقع أن يواصل البنك المركزي التركي سياسة "الانخفاض المدار" لليرة،
وهو مسار محفوف بالمخاطر يتطلب احتياطيات كافية وقدرة على إدارة التوقعات السوقية
والسياسية ببراعة. تظل الليرة في وضع حساس، ضحية لاستراتيجية صعبة تهدف إلى إنقاذ
الاقتصاد التركي من فخ التضخم المفرط.