جواز المخرجة ايناس الدغيدى من الاعلامية هالة سرحان

 

# فيلم يوم الصفر: تحليل معمق لملحمة مجيد الخطيب النفسية عن الصراع والبقاء في السينما السورية

 

 

### مقدمة: "يوم الصفر" كمرآة للروح الممزقة

 

يُعد فيلم "يوم الصفر" (Day Zero)، من إخراج وتأليف مجيد الخطيب، إضافة نوعية ومؤثرة للمشهد السينمائي السوري المعاصر، مقدماً رؤية بصرية ونفسية عميقة لتداعيات الحرب والحصار. لا يكتفي الفيلم (الذي تبلغ مدته 85 دقيقة) بسرد قصة صمود في خضم الدمار، بل يغوص في الصراع الأخلاقي بين الخلاص الفردي والنجاة الجماعية. يضع الخطيب المشاهد أمام معضلة قاسية تُجسدها مواجهة استثنائية بين شخصيتين محوريتين: الطبيبة سلاف (مرح حجاز)، التي عادت إلى جحيم الحرب إيثاراً لمساعدة أهلها، وصانع الأفلام الشاب (مرهف الكراد)، الباحث عن لقطات استثنائية لتوثيق المأساة.

# فيلم يوم الصفر: تحليل معمق لملحمة مجيد الخطيب النفسية عن الصراع والبقاء في السينما السورية

# فيلم يوم الصفر: تحليل معمق لملحمة مجيد الخطيب النفسية عن الصراع والبقاء في السينما السورية

• هذا الفيلم، الذي حصد جوائز دولية هامة منها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان عنابة وجائزة أفضل
•  إخراج في مهرجان سيؤول ويسلر، ليس مجرد شريط وثائقي أو دراما حربية تقليدية، بل هو دراسة
•  متقنة للحالة النفسية في زمن الانهيار، حيث يترقب الأبطال مصيراً يتأرجح بين أن "تلتهمك الأسماك
•  وأنت حي ترزق، أو تفقأ عينيك الغربان وأنت تحتضر."

### الافتتاحية المزدوجة تشريح خلفيات البطلين

 

استخدم مجيد الخطيب تقنية الافتتاحيات المتجاورة بصرياً لتقديم خلفية متناقضة لكل من البطلين، مما يمهد للصراع النفسي الذي سيتفجر بينهما.

 

#### 1. عالم الطبيبة سلاف (مرح حجاز)

 

تُعرض حياة سلاف الماضية عبر سلسلة من الـ"سلايدات" البصرية المأخوذة من هاتفها الشخصي. تبدأ القصة في شتاء برلين عام 2012، حيث كانت طالبة طب دولية تعيش ذروة توهج الحب مع مروان. هذه الافتتاحية السريعة تُظهر عالماً من الحرية الأكاديمية والاجتماعية، وحانات برلين، وتعاطي الخمور والمخدرات، والنقاشات المستفيضة حول نظريات فرويد والجنسانية.

1.  سرعان ما يذبل هذا الحب، لكن الأهم هو إظهار التناقض الجذري بين حياتها السابقة في أوروبا
2.  واختيارها الواعي للعودة إلى سوريا للمشاركة في تقديم المساعدة الطبية للمصابين، وهو الخيار الذي
3.  كلفها زوجها مروان (الذي قضى تحت القصف).

 

#### 2. الحالة النفسية لصانع الأفلام (مرهف الكراد)

 

على النقيض، تأتي الافتتاحية الثانية عبر جلسة مع طبيب نفسي (نسمع صوته فقط، وضاح الخطيب). نُلامس ملامح شخصية الشاب عبر أسئلة تركز على فقدان الشعور بالخوف والغضب المكبوت. تُعزز هذه الحالة النفسية المعقدة بلوحة بصرية مصاحبة تُظهر رسماً لرجل ببزة رسمية، له رأس نسر، ويمسك بيده سكيناً تقطر دماً، مما يوحي بالشخصية المفترسة التي قد تضطر للظهور في أوقات الأزمات. هذا التقديم البصري الأنيق يُدخلنا مباشرة إلى حيز الصراع الداخلي الذي يحمله هذا الشاب.

 

 

### مسرح الأحداث ضغط المكان المحاصر

 

يندفع الفيلم بعد الافتتاحيتين مباشرة إلى قلب الجحيم: مدينة سورية محاصرة (يرجح أنها مخيم اليرموك جنوب دمشق) عام 2017، تشهد معارك ضارية. يهيمن التعليق الصوتي (مجيد الخطيب) وأصوات نشرات الأخبار على الأجواء، مؤكداً هوية المكان حيث تتناثر جثث الضحايا وتحوم الغربان الداكنة (المصممة بالغرافيك) فوق الأجساد.

 

• يدير المخرج أجواء الاختناق والترقب داخل بيت الطبيبة شبه المهدم بحرفية عالية. المكان بحد ذاته
•  شخصية رئيسية؛ إنه حيز رمادي ومحاصر، تغيب فيه مقومات الحياة. صوت نباح كلب، جيروم، ينقذ
•  صانع الأفلام الشاب لثوانٍ قبل أن يُصاب بشظية في خاصرته جراء قذيفة صاروخية.

 

تتولى سلاف مهمة خياطة جرح الشاب، وتبدأ أسئلة الأخير حول كاميرته وأغراضه. سرعان ما يتحول الحوار إلى مستوى أكثر شخصانية عندما يلاحظ الشاب لوغو جامعة برلين على ثياب سلاف، التي استخدمتها لتدفئة الأرض لطفلها الذي يعاني من ضعف في السمع ويستخدم جهاز "الحلزون".

 

 

### ذروة الصراع المقايضة الأخلاقية وكشف الهوية

 

تبلغ المواجهة الدرامية ذروتها عندما تفصح الطبيبة عن طلبها المصيري: تهريب طفلها إلى خارج المدينة المحاصرة، مستغلة التصاريح الرسمية التي تتيح للشاب حرية الحركة. تقترح سلاف مقايضة حياتية قاسية: نجاة طفلها مقابل استعادة الشاب "كنزه الوثائقي" (الكاميرا والأفلام).

 

عندما يرفض الشاب الطلب، متذرعاً بأنه في مهمة عمل، تشهر سلاف مسدساً حربياً في وجهه، وتطلق رصاصة تحذيرية توقظ الطفل. سجال ساخن يدور بينهما باللغة الإنجليزية، لكن في لحظة اعتراف استثنائية، ينقلب صانع الأفلام للتحدث **باللهجة السورية المحكية**. هنا، ينكشف السر: الشاب ليس أجنبياً كما ادعى، بل سوري فضل النجاة الفردية على الالتزام الجماعي، على عكس الطبيبة التي ضحت بمسيرتها المهنية في ألمانيا من أجل تقديم المساعدة.

 

1. هذه اللحظة من الكشف، حيث يتحول الحوار من لغة أجنبية محايدة إلى لغة الأم الدافئة، هي نقطة
2.  الانعطاف الرئيسية في الفيلم، مؤكدة على أن الصراع ليس بين محتل وضحية، بل بين أفراد ينتمون
3.  للوطن ذاته، لكنهم اختاروا مسارات أخلاقية متباينة في مواجهة الموت.

 

 

### التكثيف البصري واللغة السينمائية في "يوم الصفر"

 

يتميز "يوم الصفر" ببنائه الدرامي البصري المتقن، ما يؤكد على براعة مجيد الخطيب في إدارة العناصر الفنية. لعب مدير التصوير أمين أبو القاسم ومدير الإضاءة حيدر الحامض دوراً محورياً في خلق الأجواء الضاغطة.

 

#### الإضاءة والتكوين (Composition)

 

اعتمد الفيلم على إضاءة موجهة لخلق مساحات مشحونة بالعتمة والظلال، ما يعكس حالة الاختناق والريبة التي تعيشها الشخصيات. من الناحية التقنية، كان استخدام الخطيب لعدسات ذات بعد بؤري واسع (Wide Focal Length) لافتاً، حيث حققت "عمق الحقل" (Depth of Field) بشكل مكثف.

•  هذا التكثيف البصري سمح بجمع العناصر المختلفة للمشهد الواحد في تركيبة كلية، والإيهام بالبعد
•  الثالث للصورة، مما ضاعف الإحساس بضيق المكان وحصار الشخصيات داخل الكادر. العناية
•  المفرطة بالكوادر المأخوذة أدت إلى خلق عدة لقطات إيقاعية وسريعة، تُبرز هوية المكان المدمر
•  وتصاعد التوتر بين سلاف وصانع الأفلام.

 

#### هندسة الصوت والموسيقى التصويرية

 

لعبت الموسيقى التصويرية (علي سليمان) دوراً مؤثراً في مواكبة البنية الزمنية غير الخطية للفيلم. الموسيقى لم تكن مجرد خلفية، بل كانت عنصراً سردياً يشد المشاهد إلى حالة القلق والترقب. الأصوات المتداخلة للقصف ونشرات الأخبار ونباح الكلب خلقت طبقات سمعية تعزز الإحساس بالواقعية المأساوية.

 

#### البنية السردية المبتكرة والمونتاج

 

يُعد المونتاج (إبراهيم طويل وعلي زهوة) أحد أبرز نقاط القوة في **فيلم يوم الصفر**. لقد تعمد المونتيران كسر التعاقب الزمني الخطي، والنقلات السريعة إلى الماضي، للكشف عن دوافع الحاضر المعقدة. يتم تداخل أبطال اليوم مع عشاق وحالمي الأمس؛ فنرى لقطات مروان وهو ينقذ طفلاً تحت الأنقاض، تتخللها مشاهد عودة سلاف بالطائرة من برلين، ومشاهد وصول صانع الأفلام إلى شاطئ النجاة. هذا التداخل الزمني يسمح بمعالجة متعددة لحكاية الفيلم من خلال وجهات نظر متناقضة، ويثبت إصرار الخطيب على استمرار الزمن في اللقطة الواحدة رغم التناقض الجغرافي والزمني للأحداث.

 

 

### الخاتمة المفتوحة الغربان وعقدة الذنب

 

ينتهي الفيلم مع خيوط الصباح الأولى. الإرهاق يأخذ من الرجل والمرأة، فينام كل منهما في ركنه. يستيقظ صانع الأفلام ليجد سلاف تحتضن طفلها في مشهد أيقوني، يوحي بنسخة معاصرة من السيدة مريم وطفلها. يشهر الشاب كاميرته ويلتقط صوراً لهما بعناية رسام، قبل أن يغادر المكان مبتسماً لابتسامة الطفل الأصم.

 

1. هذه الابتسامة الأخيرة تُمثل نهاية مفتوحة لمصير مجهول يترقب شخصيات "يوم الصفر". لكن الفيلم
2.  يُجيب ضمناً على هذا المصير عبر رمزية الغربان. العنوان نفسه يوحي بيوم التخلي والمغادرة، حيث
3.  انتصر الخلاص الفردي لصانع الأفلام الذي تمكن من تسجيل "مشاهد استثنائية من قلب الجحيم" ثم
4.  هرب بحراً.

 

في اللقطات الختامية، تظل الغربان تحوم فوق رأس الناجي الوحيد حتى بعد وصوله إلى "شاطئ الأمان" في أوروبا. هذه المشهدية ترمز إلى عقدة الذنب التي لا تفارق الشاب. الغربان التي لم تستطع أن تفقأ عينيه في اليرموك، ربما التهمت عيون الطفل وأمه الطبيبة، التي أنقذته من موت محتم لكنه لم يتمكن أو لم يختر إنقاذها.

 فى الختام

فيلم "يوم الصفر" هو شهادة سينمائية مؤلمة عن التضحية والأنانية في زمن الحرب، وعن ثمن التوثيق الذي قد يأتي على حساب الإنسانية. إنه عمل فني نفسي عميق يؤكد على مكانة مجيد الخطيب كواحد من الأصوات الهامة التي تنقل تعقيدات الصراع السوري إلى الشاشة العالمية.