جواز المخرجة ايناس الدغيدى من الاعلامية هالة سرحان

 

فيلم الست: كيف أعادت منى زكي ومروان حامد رسم أسطورة أم كلثوم بإنسانية مفرطة؟

قسم: أفلام

تظل سيرة "كوكب الشرق" أم كلثوم عصية على الحصر في مجرد عمل فني واحد، فهي ليست مجرد مطربة، بل هي جزء من وجدان الأمة العربية وتاريخها السياسي والاجتماعي. ومع ذلك، جاء فيلم "الست"، من بطولة النجمة منى زكي وإخراج الرؤيوي مروان حامد وتأليف الأديب أحمد مراد، ليقدم رؤية مغايرة تماماً، تكسر الصورة النمطية المقدسة وتنفذ إلى أعماق "المرأة" خلف الأسطورة.

في هذا المقال، نستعرض تحليلاً شاملاً لفيلم "الست"، وكيف نجح في تقديم أم كلثوم كإنسانة تشعر، تحب، تنكسر، وتنتصر.

فيلم الست: كيف أعادت منى زكي ومروان حامد رسم أسطورة أم كلثوم بإنسانية مفرطة؟

فيلم الست: كيف أعادت منى زكي ومروان حامد رسم أسطورة أم كلثوم بإنسانية مفرطة؟

فلسفة العنوان لماذا الست وليس كوكب الشرق؟

اختيار اسم "الست" كعنوان للفيلم لم يكن مجرد استخدام للقب دارج، بل هو قرار فني ذكي يعكس الزاوية التي اختارها صناع العمل. فبينما تحضر ألقاب مثل "كوكب الشرق" أو "سيدة الغناء العربي" لتصف العظمة الفنية، يأتي لقب "الست" ليصف "المرأة" المصرية التي نجحت في مجتمع ذكوري، وتحدت الفقر والجهل لتصنع مجدها الخاص.

الفيلم يركز على أن أم كلثوم هي "امرأة" في المقام الأول، نجحت بمشاعرها الطبيعية وتحدياتها الشخصية في أن تصبح أسطورة خالدة، وهو ما يجعل العمل تكريماً لطموح المرأة وقوتها في مواجهة أزمات الحياة.

منى زكي.. تحدي التجسيد وعبقرية الأداء

واجهت النجمة منى زكي تحدياً وصفه الكثيرون بالانتحار الفني؛ فتجسيد شخصية بقيمة أم كلثوم يضع الممثل تحت مقصلة المقارنة الدائمة. لكن منى زكي، وبدعم من تقنيات الماكياج المذهلة، نجحت في العبور من "الشكل" إلى "الروح".

التحول الجسدي والانفعالي

استطاعت منى زكي محاكاة أم كلثوم في مختلف مراحلها العمرية، من الصبا إلى الشيخوخة. ولم يقتصر الأمر على تقليد الحركات الجسدية الشهيرة، بل نفذت إلى "الإحساس العميق" لأم كلثوم. نراها في لحظات القوة على المسرح، وفي لحظات الضعف والانكسار داخل غرفتها المغلقة، مما جعل المشاهد ينسى في كثير من الأحيان أنه أمام ممثلة، ويشعر بأنه في حضرة "ثومة" الحقيقية.

كسر الصورة النمطية أم كلثوم الإنسانة

أحد أبرز نقاط القوة في فيلم "الست" هو جرأته في الاقتراب من "المناطق المحظورة" في حياة أم كلثوم. الفيلم يفكك الهالة المقدسة التي أحاطت بها لعقود، ليظهرها كبشر يخطئ ويصيب، يغضب ويهدأ.

لحظات الضعف والوحدة

أظهر الفيلم أم كلثوم في حالات ضعف إنساني شديدة؛ مثل ألمها لفقدان والدها، وشعورها بالوحدة القاتلة رغم ملايين المعجبين. وفي مشهد مؤثر، نرى كيف كانت تشكو من أن أحداً لا يزورها، وأن المقربين منها كانوا يخشون هيبتها، مما صنع جداراً من العزلة حولها.

الغضب والتوتر

لم يتردد الفيلم في عرض الجوانب العصبية في شخصيتها، مثل تعاملها بحدة مع أعضاء فرقتها الموسيقية في لحظات التوتر، أو لجوئها لتدخين السجائر لامتصاص الضغوط الرهيبة التي كانت تتعرض لها. هذه التفاصيل جعلت الشخصية أكثر واقعية وقرباً من الجمهور.

العلاقات العاطفية القلب خلف النظارة السوداء

استعرض الفيلم ببراعة المحطات العاطفية في حياة أم كلثوم، وهي المحطات التي غالباً ما كانت تُحاط بالكتمان.

1. أحمد رامي: الحب المستحيل: جسد الفنان محمد فراج دور الشاعر أحمد رامي ببراعة، مبرزاً تلك العلاقة الفريدة بين المطربة وملهمها. الفيلم أظهر كيف رفضت أم كلثوم الزواج منه خوفاً على علاقتهما الفنية، مفضلةً أن يظل رامي هو "الشاعر" الذي يغذي فنها بدموعه.
2. شريف باشا صبري: الانكسار أمام العرش: تناول الفيلم قصة حبها لخال الملك فاروق، وكيف انتهت هذه القصة بالانكسار بسبب التدخلات السياسية ورفض الملكة نازلي، مما ترك جرحاً غائراً في قلب "الست".
3. الدكتور حسن الحفناوي: الاستقرار المتأخر: عرض العمل حكاية ارتباطها بطبيبها المعالج، وكيف وجدت فيه السند والأمان في مرحلة متقدمة من عمرها، رغم معاناتها الصحية.

أم كلثوم والسياسة مواقف لا تُنسى

لم يكن فيلم "الست" بعيداً عن الصراعات السياسية التي عاصرتها أم كلثوم، بل قدمها كشخصية وطنية بامتياز، تمتلك ذكاءً سياسياً حاداً.

الصدمة بعد ثورة 1952

أبرز الفيلم بصدق موقف أم كلثوم بعد ثورة يوليو، حيث رفضت النفاق السياسي أو التبرؤ من علاقتها بالملك فاروق. أظهر الفيلم شجاعتها في التمسك بمواقفها، رغم ما تعرضت له من تهميش وإبعاد عن الإذاعة ونقابة الموسيقيين في بداية العهد الجديد.

العلاقة مع جمال عبد الناصر

كيف تحولت العلاقة من التوجس إلى التقدير المتبادل؟ يبرز الفيلم دور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (الذي جسده عمرو سعد) في إعادة الاعتبار لأم كلثوم، وكيف استطاعت هي بذكائها أن تغني "مصر التي في خاطري" لتفتح صفحة جديدة مع السلطة والشعب.

المجهود الحربي ونكسة 1967

يعتبر الجزء الخاص بنكسة 1967 من أهم أجزاء الفيلم، حيث تحولت أم كلثوم إلى "جندي" في معركة استعادة الكرامة. أظهر الفيلم جولات الصمود التي قامت بها في مختلف دول العالم لجمع التبرعات للمجهود الحربي، رغم تدهور حالتها الصحية، مؤكداً على أن فنها كان سلاحاً لا يقل قوة عن المدافع.

الرؤية الإخراجية والإنتاجية عالم مروان حامد المبهر

نجح المخرج مروان حامد في خلق عالم بصري مذهل، يعيدنا إلى أجواء القاهرة وباريس في القرن الماضي.

• الديكور والملابس: تم تنفيذ الديكورات والملابس بدقة تاريخية متناهية، مما ساعد في نقل المشاهد إلى تلك الحقبة الزمنية بيسر وسهولة.
• الإيقاع الفني: تميز الفيلم بإيقاع متوازن، رغم طول مدته التي تجاوزت الساعتين، حيث تداخلت المشاهد الحالية مع "الفلاش باك" بسلاسة تحكي قصة الصعود من القاع إلى القمة.
• ضيوف الشرف: زاد من ثقل العمل ظهور نخبة من النجوم كضيوف شرف، مثل كريم عبد العزيز، نيللي كريم، أحمد حلمي، وأحمد أمين، حيث أضاف كل منهم بصمة خاصة للشخصيات التاريخية التي جسدوها.

الخاتمة الست وثيقة فنية للتاريخ

فيلم "الست" ليس مجرد فيلم سيرة ذاتية، بل هو وثيقة فنية تحاول فهم "الظاهرة الكلثومية" من منظور إنساني بحت. لقد نجح صناع العمل في تقديم فيلم يجمع بين الإبهار البصري، العمق الدرامي، والصدق التاريخي.

إن رسالة الفيلم الأساسية هي أن العظمة لا تأتي من الفراغ، بل هي نتاج صراعات داخلية وخارجية، وآلام وطموحات امرأة رفضت أن تكون مجرد رقم في سجلات التاريخ، لتصبح هي "التاريخ" نفسه.