اكتشاف تاريخي في إنجلترا: أقدم دليل على إشعال
النار يغير مفاهيمنا عن إنسان نياندرتال
مقدمة: النار.. شرارة الحضارة الأولى
لطالما اعتبر اكتشاف النار
والسيطرة عليها نقطة التحول الأبرز في تاريخ السلالة البشرية. لم تكن مجرد أداة
للطهي أو التدفئة فحسب، بل كانت التكنولوجيا الأولى التي ميزت الإنسان عن بقية
الكائنات، ومهدت الطريق لتطور الدماغ البشري والمجتمعات القديمة. وفي كشف أثري
مذهل، أعاد علماء الآثار كتابة هذا التاريخ، معلنين عن العثور على أقدم دليل مادي
يؤكد قيام الإنسان بإشعال النار بشكل متعمد في أوروبا، وتحديداً في مقاطعة "سوفوك"
الإنجليزية، قبل ما يقرب من نصف مليون عام.
هذا الاكتشاف لا يغير فقط
الجدول الزمني لتطورنا، بل يعيد الاعتبار لـ "إنسان نياندرتال"، نافياً
عنه صفة البدائية ومؤكداً على ذكائه وقدرته على الابتكار.
 |
| اكتشاف تاريخي في إنجلترا: أقدم دليل على إشعال النار يغير مفاهيمنا عن إنسان نياندرتال |
اكتشاف تاريخي في إنجلترا: أقدم دليل على إشعال النار يغير مفاهيمنا عن إنسان نياندرتال
تفاصيل الاكتشاف في موقع بارنهام العودة
415 ألف سنة إلى الوراء
في حفرة طينية قديمة كانت
تُستخدم لصنع الطوب بالقرب من قرية "بارنهام" في مقاطعة سوفوك، عثر فريق
من الباحثين بقيادة علماء من المتحف البريطاني على كنز أثري لا يقدر بثمن. لم يكن
الكنز ذهباً أو مجوهرات، بل كان موقداً للنار يعود تاريخه إلى 415 ألف سنة.
الأدلة المادية الدامغة
ما يجعل هذا الاكتشاف
فريداً ليس فقط قدمه، بل طبيعة الأدلة التي تؤكد "عمدية" الفعل. فغالباً
ما يجد العلماء آثاراً لحرائق قديمة، لكن يصعب التمييز بين النار التي أشعلها
الإنسان وتلك الناتجة عن حرائق الغابات الطبيعية. لكن في بارنهام، كانت الأدلة
قاطعة:
- الموقد المتعمد:
عثر العلماء على منطقة محددة من الطين المتفحم، مما
يشير إلى استخدام متكرر ومركز للنار في بقعة واحدة.
- الأدوات الحجرية المتأثرة بالحرارة: تم اكتشاف فؤوس
يدوية مصنوعة من حجر الصوان
(Flint)،
وقد تهشمت وتشوهت بفعل تعرضها لدرجات حرارة عالية جداً لا تتولد إلا داخل
المواقد.
- حجر "البيريت" (Pyrite): وهذا هو الدليل
الأهم. عثر الباحثون على قطعتين من معدن "البيريت الحديدي". هذا
المعدن عند ضربه بحجر الصوان يولد شرارات قوية كافية لإشعال المواد الجافة. وجود
هذا المعدن في الموقع لم يكن صدفة جيولوجية، بل تم جلبه خصيصاً لهذا الغرض.
ويؤكد
نيك أشتون، عالم الآثار والقيم على مجموعات العصر الحجري القديم بالمتحف
البريطاني، قائلاً: "نعتقد أن البشر جلبوا البيريت إلى الموقع بقصد إشعال
النار، وهذا له تبعات هائلة، إذ يدفع إلى الوراء تاريخ أقدم إشعال متعمد للنار".
إعادة
رسم الخط الزمني قفزة هائلة في التاريخ
قبل هذا الاكتشاف، كان
الإجماع العلمي -بناءً على الأدلة المادية المتوفرة- يشير إلى أن أقدم دليل مؤكد
على صناعة النار في أوروبا يعود لـ 50 ألف سنة فقط، في موقع شمال فرنسا.
هذا الاكتشاف الجديد في
إنجلترا يعود بنا إلى الوراء بمقدار مذهل، مضيفاً مئات الآلاف من السنين إلى تاريخ
سيطرة الإنسان على النار. إنه يثبت أن أسلافنا في العصر الحجري القديم (Paleolithic) كانوا
يمتلكون المعرفة التقنية والتخطيط المسبق للتحكم في بيئتهم بشكل لم نكن نتخيله من
قبل.
إنسان
نياندرتال مهندس النار الأول
من هم هؤلاء البشر الذين
جلسوا حول هذا الموقد قبل 415 ألف سنة؟ تشير الدراسات والتحليلات إلى أنهم كانوا
من أوائل "إنسان نياندرتال"
(Neanderthals).
دحض الخرافات الشائعة
لطالما صورت الثقافة
الشعبية إنسان نياندرتال على أنه كائن همجي، محدود الذكاء، يعيش على الفطرة
الحيوانية. لكن موقع "بارنهام" يقدم صورة مغايرة تماماً:
- الذكاء والتخطيط:
استخدام البيريت والصوان يتطلب معرفة بخصائص
المعادن ومهارة حركية دقيقة.
- التكيف البيئي:
بريطانيا في ذلك العصر كانت تتمتع ببيئات باردة
وقاسية. القدرة على إشعال النار كانت مسألة حياة أو موت، مما يعكس قدرة عالية
على التكيف.
وعلى
الرغم من عدم العثور على عظام بشرية في موقع الموقد نفسه، إلا أن كريس سترينجر،
المتخصص في دراسة الإنسان القديم، أشار إلى تطابق الأدوات والفترة الزمنية مع
بقايا جماجم عُثر عليها سابقاً في مواقع قريبة وتعود لنفس الحقبة (400-430 ألف سنة)،
وهي تحمل سمات واضحة لإنسان نياندرتال المبكر، مشابهة لتلك الموجودة في موقع "سيما
دي لوس هويسوس" في إسبانيا.
أهمية
النار في التطور البيولوجي والاجتماعي
لم يكن إشعال النار مجرد
وسيلة للراحة، بل كان المحرك الأساسي الذي دفع عجلة التطور البشري للأمام. ويمكن
تلخيص أهمية هذا الاكتشاف في النقاط التالية:
1. الثورة الغذائية وتطور
الدماغ
يشير روب ديفيس، عالم
الآثار المشارك في الدراسة، إلى أن الطهي كان عاملاً حاسماً. فالنار سمحت بما يلي:
- قتل الطفيليان:
القضاء على مسببات الأمراض في اللحوم النيئة.
- تحييد السموم:
جعل بعض الجذور والدرنات السامة صالحة للأكل.
- توفير الطاقة:
الطعام المطبوخ أسهل في الهضم وأكثر طراوة. هذا
يعني أن الجسم لم يعد بحاجة لاستهلاك طاقة هائلة في عملية الهضم (كما تفعل
الحيوانات)، فتم توجيه هذه الفاقة الفائضة لتغذية ونمو الدماغ البشري. لولا
النار، لما تطورت أدمغتنا لتصل إلى حجمها الحالي.
2. البقاء في البيئات الصقيعية
كانت أوروبا، وبريطانيا
تحديداً، تخضع لعصور جليدية متكررة. النار مكنت الصيادين من استيطان مناطق لم تكن
صالحة للسكن لولا وجود مصدر للتدفئة. كانت النار بمثابة "ملاذ" محمول
يسمح للبشر بتوسيع رقعة انتشارهم الجغرافي.
3. الحماية والأمان
في عالم مليء بالحيوانات
المفترسة الضخمة (كالنمور سيفية الأسنان والدببة)، كانت النار سلاحاً ردعياً
فعالاً يوفر الأمان للمجموعة أثناء النوم ليلاً.
4. البعد الاجتماعي
يُعتقد أن الموقد كان
النواة الأولى للحياة الاجتماعية. التجمع حول النار ليلاً وفر فرصة للتواصل، تبادل
القصص، وتعزيز الروابط الاجتماعية بين أفراد القبيلة، مما ساهم في تطور اللغة
والثقافة.
الخلاصة إرث لا يزال حياً
إن اكتشاف موقد "بارنهام"
هو تذكير قوي بأن التاريخ البشري أعمق وأعقد مما نتصور. إنه يبرز أن إنسان
نياندرتال، الذي انقرض قبل نحو 39 ألف سنة، لم يكن مجرد فرع ميت في شجرة التطور،
بل كان سلفاً ذكياً ومبتكراً.
ورغم أن الإنسان العاقل (Homo sapiens) قد
حل محل النياندرتال، إلا أن إرثهم لا يزال باقياً. ليس فقط في جيناتنا التي نحمل
جزءاً منها نتيجة التزاوج القديم، بل في الشرارة الأولى التي أشعلوها في براري
إنجلترا، تلك الشرارة التي مهدت الطريق للبشرية لتصبح الجنس المهيمن على كوكب
الأرض.
هذا الاكتشاف هو دعوة
لإعادة التفكير في قدرات أسلافنا القدماء، واحترام الرحلة الطويلة والشاقة التي
خاضوها لترويض الطبيعة، بدءاً من حجرين من الصوان وقطعة من البيريت.