## ماذا وراء تخبط الشباب في وجه تقلبات الحياة العملية؟ نظرة معمقة على أزمة الصحة النفسية في جيل زد
تتزايد الأصوات التي
تنذر بتفاقم أزمة الصحة النفسية بين أوساط الشباب، وخاصةً أولئك الذين يقتحمون
حديثًا غمار الحياة العملية.
![]() |
## ماذا وراء تخبط الشباب في وجه تقلبات الحياة العملية؟ نظرة معمقة على أزمة الصحة النفسية في جيل زد |
لم تعد الشكوى من ضغوط العمل
مجرد تذمر اعتيادي، بل تحولت إلى ظاهرة تستدعي وقفة جادة، خاصة بعد أن كشفت
التقارير عن ارتفاع ملحوظ في أعداد الشباب الذين يضطرون إلى أخذ إجازات مرضية بسبب
معاناتهم من اضطرابات نفسية. فما الذي يحدث بالضبط؟ وهل نحن أمام "وباء يأس"
حقيقي، أم أن جيل الشباب ببساطة غير قادر على استيعاب حقيقة أن الحياة مليئة
بالعراقيل التي تساعدنا على تعزيز قدرتنا على الصمود؟
**أرقام مقلقة وتساؤلات مشروعة**
التقرير الصادر عن
منظمة الصحة النفسية في المملكة المتحدة حول الإرهاق يقدم صورة قاتمة. ثلث
العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا احتاجوا إلى إجازة مرضية العام
الماضي بسبب اضطرابات نفسية، مقارنة بواحد من كل عشرة من الفئة العمرية 55 عامًا
فما فوق. هذه الأرقام تثير تساؤلات مشروعة حول طبيعة الضغوط التي يتعرض لها
الشباب، وحول مدى استعدادهم النفسي لمواجهة تحديات الحياة العملية.
- يعزو الشباب هذه الضغوط إلى عدة عوامل
- منها المطالبة بالعمل ساعات إضافية بوتيرة دورية دون مقابل
- أو اضطرارهم للعمل لساعات إضافية
- لمجاراة الغلاء المعيشي المتزايد
- هذه العوامل، وإن كانت مادية في ظاهرها
- إلا أنها تحمل في طياتها أعباء نفسية كبيرة
- مثل الشعور بالاستغلال،
وانعدام الأمان الوظيفي، والخوف من المستقبل.
من جهة أخرى، يرى البعض
أن ارتفاع الوعي بشؤون الصحة النفسية قد يكون سببًا في عدم قدرة الشباب على
التمييز بين شعور الإحباط الاعتيادي والأزمات النفسية الحقيقية. فهل نحن نميل إلى
تضخيم المشكلات البسيطة وتحويلها إلى حالات مرضية؟ وهل أصبحنا نعتمد بشكل مبالغ
فيه على الأدوية والعلاجات النفسية للتعامل مع تقلبات الحياة العادية؟
**جيل زد والبحث عن الذات في عالم العمل**
لا شك أن جيل زد، الذي
يمثل الشريحة الأكبر من الشباب العامل، يحمل معه قيمًا وتطلعات مختلفة عن الأجيال السابقة. هذا الجيل نشأ في عالم رقمي، عالم السرعة والوفرة والخيارات اللامحدودة. هو
جيل يبحث عن المعنى والهدف في كل ما يفعله، ولا يرضى بالوظيفة التي لا تمنحه شعورًا
بالإنجاز والرضا.
- لكن الواقع العملي غالبًا ما يصطدم بهذه التطلعات المثالية.
- فالوظائف المتاحة قد لا تكون بالضرورة مثيرة أو مجدية
- وقد تتطلب التنازل عن بعض القيم الشخصية.
- هذا التناقض بين التطلعات والواقع
- قد يولد شعورًا بالإحباط واليأس
- ويدفع الشباب إلى البحث عن حلول سريعة
- مثل الإجازات المرضية أو العلاجات النفسية.
**تربية الأولاد والمبالغة في الحماية**
هناك عامل آخر يجب أخذه
في الاعتبار، وهو طريقة التربية التي تلقاها هذا الجيل. ففي العقود الأخيرة، أصبح
الآباء أكثر حرصًا على حماية أبنائهم من الفشل والإحباط. هم يتدخلون لحل مشكلاتهم،
ويسهلون لهم الطريق، ويحيطونهم برعاية مفرطة. هذه الطريقة قد تكون مفيدة في المدى
القصير، لكنها في المدى الطويل قد تحرم الأبناء من فرصة تطوير مهاراتهم في التعامل
مع الصعاب، وتجعلهم أكثر عرضة للاكتئاب والقلق.
- يشير آلان بيرسي، الرئيس السابق لقسم الإرشاد النفسي في جامعة أكسفورد
- إلى أن الجيل الأكبر سنًا قد أضر بالشباب من حيث لا يدري
- عندما دأب على إزالة كل عائق يظهر أمامهم
- بدلًا من أن يحول الصعوبات إلى شأن يمكن التعامل معه.
- فالشباب بحاجة إلى أن يبنوا نجاحهم بطريقتهم الخاصة
- وأن يتعلموا من أخطائهم، وأن يواجهوا التحديات بشجاعة وثقة.
**وسائل التواصل الاجتماعي نعمة ونقمة**
لا يمكن الحديث عن أزمة
الصحة النفسية بين الشباب دون التطرق إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي. هذه
الوسائل، رغم فوائدها الكثيرة في التواصل والتعبير عن الذات، إلا أنها تحمل في
طياتها مخاطر جمة. فهي تخلق بيئة تنافسية، وتعزز ثقافة المقارنة، وتفرض معايير
جمالية غير واقعية.
- البروفيسورة روزاليند غيل، في كتابها "مثالية
- نظرات وأحكام على وسائل التواصل"
- تتحدث عن الضغوط الهائلة التي تتعرض لها الشابات
- من أجل الظهور بمظهر مثالي على وسائل التواصل.
- هن يشعرن بأنهن مراقبات ومحكوم عليهن طوال الوقت
- وهذا يولد لديهن شعورًا
دائمًا بالقلق والتوتر.
**ماذا عن مكان العمل؟**
لقد تغيرت طبيعة العمل
بشكل كبير في العقود الأخيرة. المنافسة أصبحت أشد، والوظائف أصبحت أكثر تطلبًا،
والتكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كل وظيفة تقريبًا. هذا التغيير قد يكون
صعبًا على الشباب، الذين لم يعتادوا على هذا النوع من الضغوط.
- كذلك، فإن ثقافة "الاتصال الدائم" التي تفرضها التكنولوجيا
- تجعل من الصعب على الموظفين الفصل بين حياتهم العملية وحياتهم الشخصية.
- هم مطالبون بالرد على رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية
- حتى في أوقات راحتهم، وهذا يولد لديهم شعورًا بالإرهاق المزمن.
**ما الحل؟**
لا شك أن أزمة الصحة
النفسية بين الشباب تتطلب حلولًا شاملة ومتكاملة. هذه الحلول يجب أن تشمل:
- * **تغيير طريقة التربية:** يجب على الآباء أن يمنحوا أبنائهم المزيد من الاستقلالية، وأن يسمحوا لهم بالفشل والتعلم من أخطائهم، وأن يعلموهم كيفية التعامل مع الصعاب بشجاعة وثقة.
- * **تنظيم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي:** يجب على الشباب أن يكونوا واعين بمخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يحددوا وقتًا معينًا لاستخدامها، وأن يركزوا على بناء علاقات حقيقية في العالم الواقعي.
- * **تحسين بيئة العمل:** يجب على الشركات أن تخلق بيئة عمل صحية وداعمة، وأن توفر للموظفين فرصًا للتطور والنمو، وأن تحترم حقوقهم، وأن تمنحهم أجورًا عادلة.
- * **تعزيز الوعي بالصحة النفسية:** يجب على المجتمع ككل أن يعزز الوعي بأهمية الصحة النفسية، وأن يكسر حاجز الخوف من العلاج النفسي، وأن يوفر الدعم النفسي للشباب المحتاجين.
- * **تغيير النظرة إلى العمل:** العمل يجب أن يكون وسيلة لتحقيق الذات وتنمية القدرات، لا مجرد مصدر للرزق. يجب على الشباب أن يبحثوا عن وظائف تتناسب مع قيمهم وتطلعاتهم، وأن لا يرضوا بالوظائف التي لا تمنحهم شعورًا بالإنجاز والرضا.
**مسؤولية مشتركة**
إن مواجهة أزمة الصحة
النفسية بين الشباب هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع: الآباء، والمعلمين،
وأصحاب العمل، والمجتمع ككل. يجب علينا أن نعمل معًا لخلق بيئة صحية وداعمة
للشباب، بيئة تساعدهم على النمو والتطور وتحقيق أحلامهم، بيئة تجعلهم قادرين على
مواجهة تحديات الحياة بشجاعة وثقة.
- إن استثمارنا في صحة شبابنا النفسية هو استثمار في مستقبلنا جميعًا.
- فشباب اليوم هم قادة الغد، وهم الذين سيحملون على عاتقهم
- مسؤولية بناء مجتمعاتنا.
- فإذا أردنا أن نضمن لهم مستقبلًا مشرقًا
- يجب علينا أن نوفر لهم الدعم والرعاية التي يحتاجون إليها.
**ختامًا**
إن أزمة الصحة النفسية
بين الشباب ليست مجرد مشكلة فردية، بل هي مشكلة مجتمعية تستدعي وقفة جادة ومراجعة
شاملة. يجب علينا أن نغير طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى الشباب، وأن نعاملهم باحترام
وتقدير، وأن نوفر لهم الدعم والرعاية التي يحتاجون إليها. عندها فقط سنتمكن من مساعدة
هذا الجيل على تجاوز التحديات والصعاب، وتحقيق أحلامه وطموحاته. عندها فقط سنتمكن
من بناء مجتمع أكثر صحة وسعادة وازدهارًا.