**السيالة العصبية: لغة الحياة في الجهاز العصبي**
يُعد الجهاز العصبي بمثابة شبكة الاتصالات فائقة
التعقيد والدقة في جسم الإنسان والكائنات الحية المتطورة، وهو المسؤول عن تنظيم
وتنسيق كافة الأنشطة الحيوية، بدءًا من أبسط ردود الفعل الانعكاسية وصولًا إلى
أعقد العمليات الفكرية والإدراكية. تتجلى عبقرية هذا الجهاز في قدرته على استقبال
المعلومات من البيئة الداخلية والخارجية، ومعالجتها، ثم إصدار الأوامر والاستجابات
المناسبة. وفي قلب هذه المنظومة المعقدة، تكمن "السيالة العصبية" (Nerve
Impulse)، تلك
الشرارة الكهروكيميائية التي تمثل لغة التخاطب الأساسية بين مكونات الجهاز العصبي،
وبدونها تتوقف الحياة كما نعرفها.
![]() |
**السيالة العصبية: لغة الحياة في الجهاز العصبي** |
**بنية الجهاز العصبي والخلية العصبية الأساس الفيزيولوجي للسيالة**
يتألف الجهاز العصبي بشكل رئيسي من الجهاز العصبي المركزي (الدماغ
والحبل الشوكي) والجهاز العصبي الطرفي (الأعصاب المتفرعة). الوحدة البنائية
والوظيفية الأساسية في كلا الجهازين هي الخلية العصبية، أو "العصبون" (Neuron).
يتميز العصبون بتركيبة فريدة تؤهله لأداء وظيفته في نقل
الإشارات:
1. **جسم
الخلية (Soma):** يحتوي على النواة والعضيات الخلوية الأساسية، وهو مركز
العمليات الحيوية للخلية.
2. **التغصنات
أو الزوائد الشجيرية (Dendrites):**
امتدادات متفرعة من جسم الخلية، وظيفتها استقبال
الإشارات العصبية من عصبونات أخرى أو من مستقبلات حسية.
3. **المحور
العصبي (Axon):** امتداد طويل وأسطواني، ينقل السيالة العصبية بعيدًا عن جسم
الخلية نحو عصبونات أخرى أو خلايا مستجيبة (كالعضلات أو الغدد). غالبًا ما يُغطى
المحور بغمد المايلين (Myelin
Sheath)، وهو
مادة دهنية عازلة تزيد من سرعة توصيل السيالة.
**طبيعة السيالة العصبية رحلة كهروكيميائية**
السيالة العصبية ليست مجرد تيار كهربائي بسيط،
بل هي ظاهرة كهروكيميائية دقيقة تنشأ نتيجة تغيرات في نفاذية غشاء الخلية العصبية
للأيونات. يمكن تلخيص آلية نشوئها وانتقالها في الخطوات التالية:
* **جهد
الراحة (Resting Potential):** في الحالة الطبيعية، وعند عدم وجود مؤثر، يكون غشاء الخلية
العصبية مستقطبًا. أي أن هناك فرقًا في الجهد الكهربائي بين داخل الخلية وخارجها،
حيث يكون داخل الخلية سالب الشحنة مقارنة بخارجها (حوالي -70 ميللي فولت). يعود
هذا الاستقطاب إلى التوزيع غير المتكافئ لأيونات الصوديوم (Na+) والبوتاسيوم (K+) والبروتينات سالبة الشحنة عبر
الغشاء، وبفعل عمل مضخة الصوديوم والبوتاسيوم التي تضخ أيونات الصوديوم إلى الخارج
وأيونات البوتاسيوم إلى الداخل بشكل نشط.
* **جهد
الفعل (Action Potential):** عند تعرض العصبون لمؤثر كافٍ (سواء كان إشارة من عصبون آخر أو
مؤثر حسي)، تتغير نفاذية الغشاء لأيونات الصوديوم. تفتح قنوات الصوديوم الحسّاسة
للجهد، مما يسمح بتدفق سريع لأيونات الصوديوم الموجبة إلى داخل الخلية. هذا التدفق
يؤدي إلى إزالة الاستقطاب (Depolarization)، حيث يصبح داخل
الخلية موجب الشحنة مقارنة بخارجها. إذا وصل التغير في الجهد إلى حد معين يسمى "عتبة
التنبيه" (Threshold)، ينطلق جهد الفعل
بشكل كامل وفق مبدأ "الكل أو لا شيء".
* **إعادة
الاستقطاب (Repolarization):** بعد فترة وجيزة من تدفق الصوديوم، تُغلق قنوات الصوديوم وتُفتح
قنوات البوتاسيوم. يؤدي ذلك إلى تدفق أيونات البوتاسيوم الموجبة من داخل الخلية
إلى خارجها، مما يعيد الشحنة السالبة إلى داخل الخلية ويعيد الغشاء إلى حالة الاستقطاب.
قد يحدث فرط في الاستقطاب (Hyperpolarization)
لفترة قصيرة قبل العودة التامة إلى جهد الراحة.
* **انتقال
السيالة على طول المحور:** بمجرد نشوء جهد الفعل في نقطة ما على المحور العصبي،
فإنه يعمل كمؤثر لإزالة استقطاب المنطقة المجاورة، وهكذا تنتقل موجة إزالة
الاستقطاب على طول المحور العصبي كالشرارة. في المحاور المغطاة بالمايلين، يتم
الانتقال بشكل "قفزي"
(Saltatory Conduction) من عقدة رانفييه (فجوات في غمد
المايلين) إلى أخرى، مما يزيد سرعة التوصيل بشكل كبير، لتصل إلى ما يزيد عن 120
مترًا في الثانية (حوالي 432 كيلومترًا في الساعة).
**الانتقال المشبكي عبور الفجوة**
عندما تصل السيالة العصبية إلى نهاية المحور
العصبي (النهايات المحورية)، تواجه فجوة دقيقة تفصلها عن الخلية التالية، تُعرف
هذه المنطقة بـ "المشبك العصبي" (Synapse). هنا، يتحول الإرسال من طبيعة كهربائية إلى كيميائية في معظم
المشابك:
1. وصول
جهد الفعل إلى النهاية المحورية يفتح قنوات الكالسيوم.
2. دخول
أيونات الكالسيوم يحفز الحويصلات المشبكية (Synaptic Vesicles)، التي تحتوي على مواد كيميائية تسمى "الناقلات
العصبية" (Neurotransmitters)، على الاندماج مع
غشاء ما قبل المشبكي وإطلاق محتوياتها في الشق المشبكي.
3. تنتشر
الناقلات العصبية عبر الشق المشبكي وترتبط بمستقبلات بروتينية نوعية على غشاء
الخلية ما بعد المشبكية (سواء كانت عصبونًا آخر أو خلية عضلية أو غدية).
4. هذا
الارتباط يؤدي إما إلى إثارة الخلية ما بعد المشبكية (توليد جهد فعل جديد فيها) أو
تثبيطها (جعلها أقل قابلية للتنبيه)، اعتمادًا على نوع الناقل العصبي والمستقبل.
- وهناك أيضًا "المشابك الكهربائية" التي تعتمد على "الروابط الفجوية" (Gap Junctions)
- وهي قنوات بروتينية تصل مباشرة بين سيتوبلازم الخليتين، مما يسمح بانتقال الأيونات وبالتالي
- السيالة الكهربائية بسرعة فائقة ومباشرة، دون الحاجة لناقلات كيميائية. هذه المشابك أقل شيوعًا من
- المشابك الكيميائية ولكنها مهمة في بعض الوظائف التي تتطلب تزامنًا سريعًا بين الخلايا.
**أهمية السيالة العصبية**
السيالات العصبية هي الأساس لكل ما نقوم به
ونشعر به ونفكر فيه. هي التي تنقل الإحساس بالألم واللمس والحرارة من الجلد إلى
الدماغ، وهي التي تحمل الأوامر من الدماغ إلى العضلات للحركة، وهي التي تشكل أساس
عمليات الذاكرة والتعلم والتفكير. أي خلل في توليد أو انتقال السيالات العصبية
يمكن أن يؤدي إلى مجموعة واسعة من الاضطرابات العصبية والنفسية.
في الختام
تمثل السيالة العصبية آلية بيولوجية
مذهلة، تجمع بين الدقة والسرعة والكفاءة، لتكون بمثابة الشريان الحيوي الذي يربط
أجزاء الجهاز العصبي ويمكنه من أداء وظائفه الحيوية والمعقدة، مما يجعلها حجر
الزاوية في فهمنا للحياة والوعي.