## أين يقع عقل الإنسان: رحلة استكشاف بين الدماغ والقلب

تُعدّ إشكالية تحديد موقع العقل البشري واحدة من أقدم وأعقد المسائل التي شغلت الفلاسفة والعلماء على مر العصور. فالعقل، هذا الجوهر غير المادي الذي يمثل مركز الوعي والإدراك والتفكير، والذي يميز الإنسان عن سائر الكائنات، ظل لغزًا يستعصي على التحديد الحسي المباشر. وعلى الرغم من التقدم العلمي الهائل، لا يزال الجدل قائمًا حول ما إذا كان العقل يسكن حصريًا في الدماغ، أم أن للقلب دورًا جوهريًا في وظائفه.

## أين يقع عقل الإنسان: رحلة استكشاف بين الدماغ والقلب

مفهوم العقل وخصائصه الجوهرية

قبل الخوض في تحديد موقع العقل، من الضروري أن نوضح مفهومه.

العقل ليس مجرد مرادف للدماغ؛ فالدماغ هو العضو المادي، الشبكة العصبية المعقدة التي يمكن تشريحها ودراستها. أما العقل، فهو مجموعة العمليات الذهنية والنفسية، الإرادية منها وغير الإرادية، التي تشمل التفكير، والتحليل، والاستنتاج، والذاكرة، والإدراك، والعواطف، واتخاذ القرارات.

إنه المنظومة التي تمنح الإنسان قدرته على فهم العالم من حوله والتفاعل معه بوعي، وهو الذي يحثه
على التدبر والتمييز بين الصواب والخطأ، الخير والشر، ويشكل أساس سلوكياته وأفكاره. العقل، بهذا
المعنى، هو نقيض الجهل والجمود الفكري، وهو ما يرتقي بالإنسان فوق مستوى الغرائز البحتة.

الفرضية الأولى العقل متمركز في الدماغ

يذهب الفريق الأول، والذي يضم غالبية الأطباء وعلماء الأعصاب والفلاسفة ذوي التوجه المادي، إلى أن الدماغ هو المقر الرئيسي والحصري للعقل. تستند هذه الفرضية إلى مجموعة من الأدلة والملاحظات، من أبرزها:

1. **الارتباط الوظيفي:** أظهرت الدراسات العصبية، خاصة مع تطور تقنيات التصوير الدماغي مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وجود ارتباط وثيق بين مناطق معينة في الدماغ وأنشطة عقلية محددة. فتلف مناطق معينة يؤدي إلى فقدان وظائف عقلية معينة (كاللغة أو الذاكرة)، وتنشيط مناطق أخرى يتزامن مع عمليات التفكير أو الإدراك.

2. **العمليات العصبية:** يرى أنصار هذا الاتجاه أن العمليات العقلية الواعية، مثل التخطيط وحل المشكلات، لا تختلف في جوهرها البيولوجي عن العمليات العصبية الأخرى التي يديرها الدماغ، مثل التنفس اللاإرادي أو معالجة الإشارات الحسية. كلها تعتمد على شبكات عصبية معقدة تنقل الإشارات الكهروكيميائية.

3. **الجهاز العصبي المركزي:** يؤكدون أن الجهاز العصبي، الذي يمتد من الدماغ عبر الحبل الشوكي ليصل إلى كل خلية ونسيج في الجسم، هو المسؤول عن نقل الأوامر والمعلومات. الدماغ، بصفته المركز الأعلى لهذا الجهاز، هو من يصدر الأوامر ويستقبل المدخلات ويعالجها، وبالتالي فإن العمليات العقلية وتخزينها لا بد أن يكون ضمن نطاق سيطرته.

ومع ذلك، يقر حتى بعض مؤيدي هذا الاتجاه بأن اختزال العقل في مجرد نشاط كيميائي وفيزيائي في الدماغ قد لا يفسر بشكل كامل ظواهر مثل الوعي الذاتي أو الخبرة الذاتية (Qualia).

الفرضية الثانية العقل متمركز في القلب أو له ارتباط جوهري به

في المقابل، يطرح فريق آخر، يضم علماء مسلمين استنادًا إلى نصوص دينية، وبعض الباحثين المعاصرين في مجالات مثل علم وظائف الأعضاء وعلم النفس العصبي القلبي (Neurocardiology)، فرضية أن للقلب دورًا محوريًا في العمليات العقلية، أو أنه قد يكون هو المركز الحقيقي للعقل. من أبرز حججهم:

1. **الأدلة اللغوية والثقافية والدينية:** في العديد من الثقافات واللغات، بما في ذلك اللغة العربية، يُشار إلى القلب كموطن للفهم والإدراك والعواطف. آيات قرآنية وأحاديث نبوية تشير إلى أن القلب "يعقل" و"يفقه". وهذا يعكس فهمًا تاريخيًا عميقًا لدور القلب يتجاوز مجرد كونه مضخة للدم.

2. **الاستجابات الفسيولوجية الأولية:** يشير علماء الفسيولوجيا إلى أنه عند التعرض لمواقف مفاجئة أو مشاعر قوية (كالخوف الشديد أو الفرح الغامر)، يكون القلب هو أول الأعضاء تأثرًا بشكل ملحوظ (تسارع أو تباطؤ النبض). ويرون أن القلب قد يرسل إشارات إلى الدماغ بناءً على هذه الاستجابات الأولية، ليقوم الدماغ بدوره بتفعيل استجابات جسدية أخرى (كالهروب أو القفز).

3. **"دماغ القلب الصغير":** كشفت الأبحاث الحديثة عن وجود نظام عصبي معقد داخل القلب، يُطلق عليه أحيانًا "دماغ القلب الصغير" (the little brain in the heart) أو الجهاز العصبي القلبي الداخلي (Intrinsic Cardiac Nervous System). يتكون هذا النظام من حوالي 40,000 خلية عصبية، وهو قادر على معالجة المعلومات بشكل مستقل عن الدماغ، وإرسال إشارات تؤثر في وظائف الدماغ العليا. يعتقد البعض أن هذا النظام يلعب دورًا في الذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، وفي معالجة العواطف، وحتى في بعض جوانب الإدراك.

4. **الطاقة الكهرومغناطيسية للقلب:** يولد القلب مجالًا كهرومغناطيسيًا هو الأقوى في الجسم، ويمكن قياسه على بعد عدة أقدام. يعتقد بعض الباحثين أن هذا المجال قد يحمل معلومات تؤثر في المحيطين بنا، وفي عملياتنا الذهنية الداخلية.

نحو رؤية تكاملية

من المهم الإشارة إلى أن كلا الطرفين لم يقدما حتى الآن دليلاً حسيًا ماديًا قاطعًا يحسم الجدل بشكل نهائي لصالح توجه دون آخر. الكثير من الافتراضات، رغم دعمها بملاحظات علمية، لا تزال بحاجة إلى المزيد من البحث والتدقيق.

قد لا يكون السؤال "أين يقع العقل؟" هو السؤال الأدق، بل ربما "كيف ينشأ العقل وما هي الآليات
المتفاعلة في ظهوره؟". فمن الممكن أن العقل ليس "موجودًا" في مكان واحد حصري، بل هو ظاهرة
ناشئة (emergent property) عن تفاعل معقد بين الدماغ والقلب والجهاز العصبي بأكمله، وربما
حتى الجسم كله كنظام متكامل. قد يكون الدماغ هو المعالج الرئيسي للمعلومات والمنفذ للوظائف
التنفيذية العليا، بينما يساهم القلب في تشكيل الخبرات العاطفية والحدسية، ويؤثر في نوعية الإدراك
والتفكير من خلال شبكته العصبية وإشاراته الكهرومغناطيسية.

خاتمة

في نهاية المطاف، يبقى العقل البشري أحد أعظم الألغاز. إن السعي لفهم طبيعته وموقعه ليس مجرد فضول أكاديمي، بل هو جزء من سعي الإنسان لفهم ذاته ووجوده. سواء أكان مستقره الدماغ أم القلب أم تفاعل بينهما، فإن العقل هو هبة الله التي ميزت الإنسان، وهو الأداة التي تمكنه من الإبداع والابتكار وبناء الحضارات.

ولعل المستقبل يحمل لنا المزيد من الاكتشافات التي قد تلقي ضوءًا جديدًا على هذه الإشكالية العميقة، وتدفعنا نحو فهم أكثر شمولية وتكاملًا للعلاقة بين الجسد والعقل والروح.

أفكار حرة تامر نبيل

## أين يقع عقل الإنسان: رحلة استكشاف بين الدماغ والقلب