## تقديس التجارة وتهميش الوظيفة: وهم الثراء السريع في ميزان الواقع
في الآونة الأخيرة، تصاعد خطاب جديد يروج له
بقوة عبر منصات التواصل الاجتماعي والبودكاست، يضع التجارة وريادة الأعمال في مصاف
القداسة كطريق وحيد نحو الثراء والتحرر المالي، بينما يهمش دور الوظيفة التقليدية،
بل ويصل أحيانًا إلى حد "شيطنتها" ووصفها بـ"العبودية الحديثة".
هذا الخطاب، الذي غالبًا ما يتبناه أفراد استفادوا من امتيازات مالية موروثة أو
دعم مكّنهم من تأسيس مشاريعهم، يتجاهل عمدًا الفروق الجوهرية في رأس المال،
الخبرة، وشبكات الدعم المتاحة للأفراد، مقدمًا صورة وردية ومبسطة للغاية عن عالم
الأعمال المحفوف بالتحديات.
![]() |
## تقديس التجارة وتهميش الوظيفة: وهم الثراء السريع في ميزان الواقع |
**أسطورة الاستقالة الفورية والنجاح المضمون**
تُقدم هذه الدعوات غالبًا تحت شعارات براقة مثل "استقل وابدأ مشروعك الآن" أو "التجارة الإلكترونية أبسط مما تتخيل"،
مصحوبة بقصص نجاح مُنتقاة بعناية. إلا أنها تغفل عن ذكر العقبات الحقيقية، والفوارق الهائلة في الفرص والظروف التي يواجهها رواد الأعمال الطموحون، خاصة أولئك الذين لا يملكون رأس مال كافٍ أو شبكة علاقات داعمة.
- أو حتى هامشًا لتجربة الفشل.
- النتيجة هي شعور متزايد بالإحباط لدى الموظفين
- الذين قد يقعون فريسة للوهم بأن وظائفهم
- هي مجرد قيود تحول دون تحقيق طموحاتهم
- لا مراحل تأسيسية ضرورية
لبنائها.
يستند هذا التوجه جزئيًا إلى مفهوم "العبودية المأجورة"، الذي يعيد تعريف علاقة الفرد بالعمل المأجور خارج سياقها الاقتصادي والاجتماعي. وتاريخيًا،
- تعود جذور هذا النقد إلى التيارات الاشتراكية والشيوعية، حيث هاجم كارل ماركس نظام العمل
- المأجور معتبرًا أن العامل يعاني "الاغتراب". وتطور هذا المفهوم مع مفكرين مثل بيير جوزيف
- برودون. وفي العصر الحديث، ساهمت شخصيات بارزة في عالم الأعمال مثل إيلون ماسك وجيف
- بيزوس، وكتُب مثل "الأب الغني والأب الفقير" لروبرت كيوساكي، في ترسيخ فكرة أن الوظيفة تبقي
- الإنسان في دائرة الفقر، وأن الاستقلال المالي لا يتحقق إلا بامتلاك الأصول وإدارة المشاريع. حتى
- أن كيوساكي نفسه، في مفارقة، نصح بالعمل في "ماكدونالدز" لاكتساب الخبرة النظامية قبل بدء
- مشروع خاص، معترفًا ضمنيًا بقيمة التجربة الوظيفية.
**الوظيفة بوابة نحو الثراء الحقيقي أم سجن للأحلام؟**

يرى عبدالعزيز البكر، المهتم بتطوير ريادة الأعمال في السعودية، أن الوظيفة ليست عبودية، بل قد تكون "بوابة عملية نحو الثراء الحقيقي". فالكثير من الشباب يفتقرون إلى رأس المال والخبرة اللازمين، والوظيفة توفر لهم بيئة منظمة وآمنة لجمع المال، وفهم السوق، وتطوير المهارات. ويؤكد البكر أن المقارنة المطلقة بين الوظيفة والعمل الحر غير منصفة.
- فلكل طريق مزاياه وتحدياته، منتقدًا "الرومانسية المفرطة"
- في الترويج لريادة الأعمال التي تغفل تعقيدات الإدارة والتمويل
- وتقلبات السوق، مستشهدًا بإحصاءات عالمية تشير إلى
فشل نسبة عالية من المشاريع الناشئة.
**خرافات التجارة الإلكترونية والواقع المرير**
مع النمو اللافت لقطاع التجارة الإلكترونية،
خاصة في السعودية، امتلأت المنصات بخطابات تسويقية تروج للدخول السريع إلى هذا
القطاع تحت وهم "الثراء السريع". تستعرض كيت إيسلر، المؤسسة المشاركة
لمنصة تجارة إلكترونية، ثلاث خرافات شائعة:
1. **التكلفة
المنخفضة:** الاعتقاد بأن إنشاء متجر إلكتروني لا يتجاوز بضعة دولارات شهريًا،
متجاهلًا التكاليف الحقيقية لشراء النطاق، تأمين الموقع، بوابات الدفع، وتحسين
محركات البحث، التي قد تصل لآلاف الدولارات سنويًا.
2. **العملاء
يأتون تلقائيًا:** الافتراض بأن العملاء سيجدون المتجر بمجرد إطلاقه، بينما الواقع
يتطلب حملات تسويقية مدفوعة وجهدًا مستمرًا لبناء الوعي بالعلامة التجارية.
3. **الدخل
السريع:** الاعتقاد بأن الأرباح ستتدفق فورًا، بينما يتطلب الأمر فهمًا عميقًا
لأدوات التسويق الرقمي، وحل المشكلات التقنية، والمنافسة الشرسة.
**بيانات الواقع الوظائف ودخلها الثابت مقابل نمو الأعمال**
في ظل حملات "شيطنة" الوظائف، تشير
البيانات الرسمية في السعودية إلى أن الوظائف المتخصصة توفر دخلاً شهريًا ثابتًا
واستقرارًا ماليًا يتفوق غالبًا على عوائد المشاريع الفردية الناشئة. فبحسب تقرير
المرصد الوطني للعمل لعام 2023، ارتفع متوسط أجور السعوديين في القطاع الخاص إلى 9600
ريال، وبلغ عدد من يتقاضون أكثر من 40 ألف ريال حاجز 44 ألف موظف.
- وفي المقابل، لا يمكن إنكار الإقبال المتزايد على ريادة الأعمال، حيث كشفت وزارة التجارة السعودية
- عن نمو بنسبة 60% في إصدار السجلات التجارية خلال عام 2024 مقارنة بالعام السابق، ليصل
- إجمالي السجلات
القائمة إلى أكثر من 1.6 مليون سجل بنهاية 2024.
**خلاصة متوازنة**
إن التوجه نحو ريادة الأعمال طموح مشروع ومحفز، ولكن من الضروري تفكيك الخطابات التبسيطية التي تقدس التجارة وتهمش الوظيفة بشكل مطلق. فكلا المسارين له متطلباته وتحدياته وفرصه. الوظيفة يمكن أن تكون مرحلة تأسيسية حاسمة، توفر رأس المال والخبرة والأمان اللازم قبل خوض غمار العمل الحر.
أما
النجاح في عالم الأعمال فيتطلب أكثر من مجرد "الاستقالة"، إنه يتطلب
تخطيطًا دقيقًا، وفهمًا عميقًا للسوق، وقدرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وهي
أمور غالبًا ما يتم إغفالها في سرديات "الثراء السريع" الخادعة.
.jpeg)