### **"الليلة البيضاء" في باريس: حين يمحو الفن عتمة العزلة ويضيء المدينة**
مع حلول المساء في ليلة واحدة من كل عام، تتخلى
باريس عن هدوئها المعتاد لترتدي ثوباً من الضوء والإبداع. تتحول شوارعها العريقة
وساحاتها التاريخية وضفاف نهر السين إلى مسرح مفتوح لا يعرف النوم، حيث يصبح الفن
هو اللغة الوحيدة التي يتحدث بها الجميع. إنها "الليلة البيضاء" (Nuit
Blanche)، ليست
مجرد فعالية ثقافية، بل هي إعلان سنوي بأن الثقافة قادرة على هزم العزلة، وأن
النور يمكن أن يبدد أعمق الظلمات.
![]() |
### **"الليلة البيضاء" في باريس: حين يمحو الفن عتمة العزلة ويضيء المدينة** |
**الجذور رؤية لإعادة إحياء العلاقة بين الإنسان والمدينة**
وُلدت هذه المبادرة الفريدة في عام 2002، نتاج
رؤية طموحة من عمدة باريس آنذاك، برتراند ديلانو. كان الهدف واضحاً: إعادة نسج
الروابط التي قد تكون تلاشت بين سكان المدينة وفنونها المعاصرة. لم تكن باريس تسعى
فقط إلى تقديم الفن للجمهور، بل إلى جعل الجمهور جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني،
وتحويل المدينة بأكملها إلى لوحة تفاعلية حية.
- استلهمت الفكرة من تجربة "ليلة الفن" في هلسنكي، لكن العاصمة الفرنسية أضافت إليها بصمتها
- الخاصة، مانحةً إياها بعداً عالمياً وفلسفة أعمق. في الخامس من أكتوبر 2002، انطلقت النسخة
- الأولى، واستقطبت نصف مليون زائر تجولوا بين المنشآت الفنية والعروض الأدائية والراقصة حتى
- بزوغ
الفجر، في مشهد أثبت تعطش الجمهور لمثل هذا النوع من الاحتفاء بالثقافة.
**الفلسفة ما وراء ليلة بلا نوم**
يحمل مصطلح "الليلة البيضاء" في طياته
معنى يتجاوز مجرد السهر. أصل التعبير يعود إلى القرن الثامن عشر لوصف ليلة أرق،
لكن باريس أعطته معنى رمزياً عميقاً. إنها ليلة "بيضاء" لأنها تمثل
انتصار النور – نور الفن والمعرفة والانفتاح – على الظلمة، التي ترمز إلى الجهل والعزلة
والانغلاق.
- تتجلى هذه الفلسفة في فتح أبواب المؤسسات والأماكن التي عادة ما تكون مغلقة أمام العامة، من
- المباني الحكومية إلى الساحات الخاصة. يُدعى الفنانون لاحتلال هذه الفضاءات وتحويلها إلى تجارب
- فنية استثنائية، مما يكسر الحواجز المادية والنفسية بين الفن والناس. تصبح المتاحف، التي تفتح
- أبوابها مجاناً طوال الليل، جزءاً من "تراث ثقافي مستدام" يمكن للجميع الوصول إليه، مما يجعل الفن
- تجربة ديمقراطية وشاملة.
**من ظاهرة باريسية إلى احتفالية عالمية**
لم يقتصر نجاح "الليلة البيضاء" على
حدود باريس. سرعان ما تحولت الفكرة إلى ظاهرة عالمية، حيث تبنتها أكثر من 30 مدينة
حول العالم، من روما ومدريد إلى مونتريال وتورنتو. كل مدينة أضفت على ليلتها طابعها الخاص، لكن الروح بقيت واحدة: الاحتفاء بالإبداع في الفضاء العام.
- بالأرقام، تبدو قصة النجاح أكثر وضوحاً. منذ انطلاقها، شارك في الفعالية ما يقارب 4 آلاف فنان
- فرنسي ودولي. وتضخم عدد الزوار من نصف مليون في البداية إلى ما يقارب مليوني زائر في
- الدورات الأخيرة، مع تسجيل رقم قياسي بلغ 2.5 مليون زائر عام 2011. وعلى الرغم من أن
- الفعاليات مجانية
- فإن أثرها الاقتصادي لا يمكن إغفاله
فهي تنشط الاقتصاد الليلي، حيث تسجل المطاعم والمقاهي ارتفاعاً ملحوظاً في إيراداتها، كما أنها تخلق نموذجاً ناجحاً للشراكة بين القطاعين العام والخاص لتمويل الثقافة.
**تطور مستمر ومستقبل مشرق**
تثبت "الليلة البيضاء" قدرتها على
التجدد والتكيف. فاستجابةً لرغبة الجمهور، تم تعديل موعدها من أكتوبر البارد إلى
يونيو الأكثر دفئاً، مما يعزز من تجربة الزوار. في كل عام، يتم اختيار مدير فني
جديد ليضفي رؤيته الخاصة، مما يضمن بقاء الحدث متجدداً ومواكباً للعصر.
الختام
في نسختها الرابعة والعشرين، تحت إشراف المخرجة
فاليري دونزيلي، احتفت الليلة بالشعر والفن السابع (السينما)، مؤكدةً أن حدود
الإبداع لا نهائية. وهكذا، تظل "الليلة البيضاء" أكثر من مجرد مهرجان
فني؛ إنها نبض باريس الثقافي، وتذكير سنوي بأن الفن ليس ترفاً، بل هو ضرورة لتوحيد
المجتمعات وإضاءة دروب المستقبل.