### **أركيولوجيا الذاكرة: كيف نحت الثنائي حاجي توما وجريج سينما من شظايا لبنان؟**
في المشهد السينمائي العربي، حيث تتصارع الهويات
وتتشابك السرديات، يبرز صوت الثنائي اللبناني جوانا حاجي توما وخليل جريج كعلامة
فارقة. منذ انطلاقتهما في أواخر تسعينيات القرن الماضي، لم يقدّما مجرد أفلام، بل
أسّسا لمشروع فني متكامل، أشبه بعملية تنقيب أركيولوجية دؤوبة في طبقات الذاكرة
اللبنانية.
![]() |
### **أركيولوجيا الذاكرة: كيف نحت الثنائي حاجي توما وجريج سينما من شظايا لبنان؟** |
- سينماهما هي مختبر بصري وفكري، تُهدم فيه الحدود الصارمة بين الروائي والوثائقي، ويُعاد تشكيل
- الأرشيف ليصبح أداة للمساءلة لا للتأريخ، وتتحول فيه التجربة الشخصية إلى مرآة تعكس المأزق
- الجماعي. إنها سينما ولدت من رحم الضرورة، ضرورة مواجهة تاريخ مثقل بالغياب والحروب
- الأهلية
والنسيان القسري، وضرورة ابتكار لغة سينمائية قادرة على حمل هذا الثقل.
#### **المنهجية الفنية هدم الحدود وبناء المعنى**
يكمن جوهر المشروع السينمائي لحاجي توما وجريج في تفكيكهما المتعمد للتصنيفات التقليدية. لا يمكن بسهولة وضع أفلامهما في خانة "الروائي" أو "الوثائقي" البحت، فهما يتحركان ببراعة في المنطقة الرمادية بينهما.
- هذا التمازج ليس مجرد خيار أسلوبي، بل هو موقف فلسفي يعكس طبيعة الذاكرة نفسها؛ فهي ليست
- سجلاً كاملاً وموضوعياً، بل هي بناء متقطع، شخصي، ومليء بالثغرات والتخييلات. من خلال هذا
- النهج، ينجح الثنائي في تحويل الوثيقة التاريخية أو الصورة الأرشيفية من مجرد شاهد على الماضي
- إلى عنصر حي ومثير للجدل في الحاضر.
يظهر اهتمامهما العميق بالأرشيف كموضوع وكمادة خام. إنهما لا يستخدمان الأرشيف لتوثيق حقيقة تاريخية، بل لاستنطاقه، والكشف عن غياباته، وطرح الأسئلة حول ما تم إخفاؤه عمداً أو سهواً. في أعمالهما، يصبح البحث عن صورة مفقودة أو قصة منسية محركاً للسرد، وتصبح عملية البحث نفسها هي الفيلم.
هذا ما يمنح أعمالهما طابعاً تركيبياً متعدد الأبعاد، حيث تتجذر في التربة اللبنانية شديدة الخصوصية، لكنها في الوقت ذاته تطرح أسئلة كونية حول الهوية، والانتماء، وآليات بناء السرديات الوطنية، وهو ما أكسبها اعترافاً دولياً واسعاً في محافل مثل "كان" وبرلين ومتاحف كبرى مثل "مركز بومبيدو" و"متحف الفن الحديث".
#### **"يومٌ آخر" أنطولوجيا الغياب في بيروت ما بعد الحرب**
يُعتبر فيلم "يومٌ آخر" (2005) تجسيداً
مثالياً لسينما الثنائي في مراحلها الأولى. يغوص الفيلم في عمق الحالة النفسية
لبيروت ما بعد الحرب، مدينة تعيش حالة من الفصام الوجودي؛ فهي تندفع بجنون نحو
حداثة وعولمة سطحية، بينما لا يزال سكانها عالقين في أطلال الماضي، يصارعون أشباح
الغائبين والذكريات التي لم تُدفن. الفيلم ليس عن الحرب، بل عن أثرها الصامت
والدائم.
- بيروت هنا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي شخصية مركزية مأزومة. إيقاعها المتسارع لا يتناغم
- مع الإيقاع البطيء والمثقل لشخصياتها، مما يخلق هوّة وجودية عميقة. يجسد "مالك" (زياد سعد) هذا
- التوتر من خلال نوبات انقطاع التنفس التي تصيبه، وكأن جسده يرفض هواء المدينة المسموم
- بالنسيان. أما والدته "كلوديا" (جوليا قصار)، فإن قرارها بإعلان وفاة زوجها المفقود بعد سنوات من
- الانتظار ليس نهاية للحزن، بل هو بداية لرحلة نفسية مؤلمة نحو
الاعتراف بالفقد.
اللغة السينمائية في الفيلم تعتمد على ما هو
مرئي ومحسوس أكثر من المسموع. الحوارات شحيحة ومختزلة إلى أقصى حد، في تعبير بليغ
عن انهيار التواصل الإنساني وعجز اللغة عن وصف حجم المأساة. إنه فيلم عن ثقل
الانتظار، عن استحالة التصالح السريع مع الماضي، وعن هشاشة الفرد في مواجهة مجتمع
يفرض عليه "طي الصفحة" قسراً دون أن يسمح له بقراءتها أولاً.
#### **"بدي شوف" إشكالية النظرة وسياسات التمثيل**
بعد حرب يوليو 2006، جاء فيلم "بدي شوف"
ليطرح إشكالية مختلفة: كيف يمكن تمثيل الصدمة الجماعية سينمائياً؟ وكيف تبدو هذه
الصدمة في عيون "الآخر"؟ الفيلم، الذي يتبع رحلة الممثلة الفرنسية
الشهيرة كاترين دونوف إلى جنوب لبنان المدمر، هو عمل جريء ومثير للجدل في آن.
- الانتقادات التي طالت الفيلم بوصفه يحمل طابعاً "سياحياً" أو "استعراضياً" تكشف عن التحدي الذي
- واجهه المخرجان. حضور نجمة عالمية بحجم دونوف في قلب الخراب يطرح سؤالاً جوهرياً حول
- "نظرة الآخر". هل برودها الظاهري وانفعالاتها المحدودة تعكس لا مبالاة العالم الخارجي تجاه مآسي
- المنطقة، كما يرى البعض؟ أم أنه يكشف عن افتقار الفيلم إلى تفاعل حقيقي وعميق مع المأساة؟
قد يكون الفيلم، بكل تعثراته المحتملة، هو
الأكثر تعبيراً عن عجز التمثيل نفسه. الحوارات البسيطة، مثل نكتة حزام الأمان
المتكررة، قد تبدو سطحية، لكنها قد تكون أيضاً تعبيراً عن فشل أي خطاب معقد في
الإحاطة بحجم الدمار. ربما كان "بدي شوف" فيلماً عن فشل السينما في مهمتها،
وعن استحالة "رؤية" الكارثة وفهمها من خلال نظرة عابرة، مهما كانت
نواياها حسنة. إنه فيلم يضع المتفرج في قلب إشكالية التمثيل، ويجعله شريكاً في
مساءلة قدرة الصورة على نقل الحقيقة.
#### **"النادي اللبناني للصواريخ" بعث حلم منسي من رماد التاريخ**
يصل مشروع حاجي توما وجريج الأركيولوجي إلى
ذروته في فيلم "النادي اللبناني للصواريخ" (2013). هنا، لا ينطلقان من
أثر حرب، بل من حلم منسي. يعود الفيلم إلى حقبة الستينيات الذهبية ليكشف عن قصة
مذهلة لمشروع فضاء لبناني قاده طلاب من جامعة هايكازيان، نجحوا في إطلاق صواريخ
لأغراض علمية. هذه القصة التي طواها "ألزهايمر جماعي" سياسي وشعبي،
تحولت على أيديهما إلى مادة سينمائية خصبة.
- الفيلم يتنقل بسلاسة مدهشة بين الوثائقي، عبر لقاءات مع أبطال القصة الحقيقيين، والروائي، عبر
- مشاهد تجريبية ورمزية، أبرزها إعادة تصنيع نموذج لأحد الصواريخ ونقله في شوارع بيروت. هذا
- الفعل الرمزي ليس مجرد استعراض، بل هو مقاومة فعلية للنسيان، وإعلان بأن التاريخ ليس مجرد
- ماضٍ، بل هو
إمكانية كامنة في الحاضر.
يتجاوز الفيلم مجرد الحنين إلى "العصر
الذهبي"، ليقدم قراءة نقدية لأيديولوجيات تلك الفترة، ويربط نهاية المشروع
بنكسة 1967، وكأن انهيار الحلم اللبناني الصغير كان نذيراً بانهيار الحلم العربي
الأكبر. إنه فيلم عن الإمكانيات الضائعة، وعن صراع الفرد المبدع مع قيود السياسة
والمجتمع، وهو الامتداد الطبيعي لمسيرة سينمائية اتخذت من صون الذاكرة مهمتها
الأساسية.
#### **فى الختام**
في المحصلة، تقدم سينما جوانا حاجي توما وخليل جريج مشروعاً متماسكاً وعميقاً، يتجاوز حدود صناعة الأفلام ليصبح فعلاً ثقافياً وسياسياً. من خلال نبش الأرشيف، ومزج الأنواع، ومساءلة السرديات الرسمية، نجحا في خلق لغة سينمائية فريدة قادرة على التعبير عن تعقيدات الواقع اللبناني. أعمالهما ليست مجرد مراثٍ للماضي، بل هي دعوة مفتوحة لمواجهة أشباحه، وفهم آثاره في الحاضر، والأهم من ذلك، تخيل مستقبل لا يكون فيه النسيان هو الخيار الوحيد.
إنها سينما
شجاعة، ضرورية، وتثبت أن الفن، في أسمى تجلياته، هو فعل مقاومة ضد كل أشكال المحو.