"مرويات القارة المتجمدة أنتاركتيكا: أسرار دفنت تحت الجليد
تُعد القارة القطبية الجنوبية، أو أنتاركتيكا،
واحدة من أكثر الأماكن غموضًا وإثارة للفضول على كوكب الأرض. بمساحتها الشاسعة
التي تُقدر بنحو 14 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل ضعف ونصف مساحة الولايات
المتحدة الأمريكية، تغطي أنتاركتيكا صفيحتان جليديتان هائلتان يصل سمكهما إلى
أربعة كيلومترات في بعض الأماكن.
![]() |
"مرويات القارة المتجمدة أنتاركتيكا: أسرار دفنت تحت الجليد |
- هذه القارة الجليدية موطن لحوالي 70% من المياه العذبة على الأرض و90% من جليد المياه العذبة
- على الكوكب، مما يجعلها منطقة حيوية لدراسة التغيرات المناخية والبيئية. ومع ذلك، لا تقتصر أهمية
- أنتاركتيكا على دورها البيئي فحسب، بل تمتد لتشمل مجموعة من القصص والروايات الغامضة التي
- أثارت وما زالت تثير التساؤلات حول طبيعتها الحقيقية والأسرار التي قد تكون دفنت تحت طبقات
- جليدها السميكة.
**من الشمال إلى الجنوب رحلة الاستكشاف والغموض**
على مدى قرون، ظل القطب الشمالي هو المحور
الرئيس للاهتمام الاستكشافي، نظرًا لقربه النسبي من الحضارات البحرية. بدأت رحلات
الاستكشاف في القرن السادس عشر، مما كشف عن أسرار هذه المنطقة ببطء. في المقابل،
ظلت "الأرض الجنوبية المجهولة" (Terra Australis Incognita)
في أقصى جنوب الكرة الأرضية غامضة لفترة أطول بكثير. أثبتت
رحلات الكابتن جيمس كوك حول العالم في سبعينيات القرن الثامن عشر أن المنطقة
متجمدة وغير صالحة للسكن، ومحاطة بطبقة جليدية كثيفة بدت منيعة وغير قابلة
للاختراق.
- مع تراجع الاهتمام بألغاز الشمال، تحول انتباه العالم نحو الجنوب في تسعينيات القرن التاسع عشر.
- فجأة، بدت القارة القطبية الجنوبية وكأنها تحمل وعدًا هائلاً بالبحث العلمي، والمطالبة بأراضٍ جديدة
- وربما حتى استغلال الموارد المعدنية.
تبع ذلك "العصر البطولي للاستكشاف القطبي
الجنوبي" الذي كان علنيًا في بداياته، لكنه سرعان ما تحول إلى مناورات
جيوسياسية أكثر سرية في منتصف القرن العشرين. بلغت هذه القضية ذروتها مع إعلان "السنة
الجيوفيزيائية الدولية" عام 1957-1958، مما أدى إلى توقيع "معاهدة
أنتاركتيكا" عام 1959. هذه المعاهدة نزعت السلاح رسميًا من القارة وجعلتها
محمية حصرية للنشاط العلمي، لكنها لم تضع حدًا للتكهنات حول ما يحدث بالفعل هناك.
**الألمان السباقون ونظريات المؤامرة**
قبل فترة طويلة من الاهتمام الدولي الأوسع ب أنتاركتيكا، كان للألمان دور ريادي في استكشافها. ففي ديسمبر 1938، أبحرت سفينة الاستكشاف الألمانية "شوابنلاند" بقيادة ألفريد ريتشر، وعلى متنها طاقم من 82 عالمًا وضابطًا وفريق دعم إلى القارة القطبية الجنوبية.
- كانت مهمتهم جزءًا من هدف ألمانيا في تعزيز الاكتفاء الذاتي استعدادًا للحرب، مع اهتمام خاص
- بدعم إنتاج زيت الحيتان للمنتجات القائمة على الدهون. كان الطاقم مزودًا بطائرتين للاستطلاع
- الجوي، واستولوا على الأراضي بإلقاء صلبان معقوفة معدنية على الجليد. قام فريق ريتشر برسم
- خريطة لحوالي 97 ألف ميل مربع من القارة، وأطلقوا على المنطقة
آنذاك اسم "نيو شوابنلاند".
تؤكد السجلات الرسمية أن الألمان لم يُنشئوا
قاعدة دائمة في القارة القطبية الجنوبية، وعادوا إلى ديارهم في فبراير 1939. تقلصت
الرحلات الاستكشافية الأخرى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. لكن في هذا الوقت،
ظهرت نظريات مختلفة تُشير إلى أن الألمان اكتشفوا كل شيء في هذه القارة، من "بوابة
إلى الجحيم" إلى "بوابة تؤدي إلى حضارة متقدمة داخل أرض جوفاء". هذه
النظريات، وإن كانت مثيرة للاهتمام، يرى مهتمون وباحثون في أنتاركتيكا أنها لا
تزال غير مؤكدة وتفتقر إلى الأدلة القاطعة.
**غموض رحلة الأدميرال بيرد عملية "القفز العالي" والأسرار المكبوتة**
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة
في عام 1946، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر رحلة استكشافية على الإطلاق
في القارة القطبية الجنوبية، تحت اسم عملية "القفز العالي" (Operation
Highjump). شارك في هذه العملية 13 سفينة و23 طائرة
وأكثر من 4700 عسكري، وكُلف الأدميرال ريتشارد بيرد بقيادة هذه البعثة المهمة لمدة
أربعة أشهر. لم تكن هذه الرحلة مميزة فقط لحجمها الهائل، بل للأحداث الغامضة
والمحيرة التي زُعم أنها وقعت خلال المهمة، مما ألقى بظلال من السرية على البعثة.
- كان أحد الأهداف الرسمية للمهمة هو استكشاف مواقع محتملة لإنشاء قواعد عسكرية في أنتاركتيكا.
- ومع تقدم رحلة الأدميرال بيرد الاستكشافية، زعم أنه عثر على شيء غير متوقع. وما يزيد الأمر
- إثارة للاهتمام هو فكرة أن السلطات الحكومية قد كتمت هذه الاكتشافات، إذ وجدت محتواها مقلقًا
- للغاية.
- في مذكراته، التي يُقال إن ابنه اكتشفها بعد وفاة بيرد، دوّن الأدميرال قصة استثنائية. كتب شارحًا أنه
- بينما كان يُحلّق فوق القطب، صادف مشهدًا مذهلاً: بيئة معتدلة وخصبة، تُشكّل تناقضًا صارخًا مع
- المناظر الطبيعية القاسية والمتجمدة التي تُميز القارة القطبية الجنوبية.
لكن هذه لم تكن
سوى بداية القصة الآسرة. فوفقًا لمذكرات بيرد، واصل رحلته وعثر بالصدفة على مدينة
قوس قزح متلألئة، مبنية بالكامل من الكريستال. لم تكن هذه المدينة تشبه أي شيء رآه
من قبل. ومما زاد الأمر غموضًا أن طائرته وقعت فجأة تحت سيطرة قوى مجهولة، فلاحظ
أجسامًا طائرة على شكل أقراص تحيط به. قادته هذه الأجسام إلى الأرض، ومن ثم قادته
إلى منطقة كهفية واسعة، حيث التقى بكائن أطلق عليه اسم "السيد".
حرص الأدميرال بيرد على مشاركة قصته، لكنه قوبل
بأوامر صارمة بالتزام الصمت. رُوي أنه اقتيد إلى مجمع حكومي، حيث أُمر بصرامة بألا
يُفصح أبدًا عن الأحداث التي شهدها. أُحيط كل ما يتعلق برحلته إلى أنتاركتيكا
واكتشافاته اللاحقة بالسرية التامة، تاركًا رحلة الأدميرال بيرد الغامضة محاطة
بالكتمان والألغاز التي لا تزال تثير الفضول حتى يومنا هذا.
**56 دولة موقعة معاهدة أنتاركتيكا والبروتوكول البيئي**
بعد مرور عقد تقريبًا على عملية "القفزة
العالية"، وبعد تداول قصة لجوء الزعيم النازي هتلر إلى القطب الجنوبي
واحتمائه به، أجرت الولايات المتحدة أواخر خمسينيات القرن الماضي ثلاثة تفجيرات
قنابل ذرية في نصف الكرة الجنوبي. كانت هذه التجارب جزءًا من عملية سرية عُرفت
باسم "عملية أرغوس". يُقال إن الهدف الرئيس منها كان دراسة آثار
الانفجارات النووية خارج الغلاف الجوي للأرض، حيث ركزت الانفجارات على فيزياء
الانفجارات النووية وتأثيرها في البيئة الخارجية للأرض، مثل الغلاف الأيوني
والمجالات المغناطيسية.
- في ظل اشتداد توترات الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي، أثار التسابق على المطالبة
- بالسيادة الإقليمية والسعي وراء الاكتشافات العلمية في أنتاركتيكا تساؤلات مهمة عدة. أولها: هل يمكن
- للدول ذات المطالبات الإقليمية أن تبدأ بعسكرة أنتاركتيكا؟ وهل يمكنها استغلال مواردها؟ وهل يمكن
- أن تكون أنتاركتيكا ملكًا لأي جهة إذا طالبت بها؟
لذا، عملت عدة دول معًا للإجابة عن هذه الأسئلة الملحة، وعُرف الاتفاق الناتج منها في ما بعد باسم "معاهدة أنتاركتيكا". ففي الأول من ديسمبر 1959، وُقعت معاهدة أنتاركتيكا في واشنطن العاصمة من قبل الأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وتشيلي وفرنسا واليابان ونيوزيلندا والنرويج وروسيا وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
- كانت هذه الدول الـ12 هي الأطراف الاستشارية الأصلية. دخلت المعاهدة، التي حددت أنتاركتيكا
- كمنطقة للأغراض السلمية فقط، حيز النفاذ عام 1961، ومنذ ذلك الحين نمت لتشمل 56 دولة موقعة
- و29
طرفًا استشاريًا، مما يعكس التوافق الدولي على أهمية الحفاظ على هذه القارة.
وفي عام 1988، تفاوضت أطراف معاهدة أنتاركتيكا
على اتفاق لتنظيم أنشطة الموارد المعدنية في أنتاركتيكا، والذي كان من المفترض أن
ينظم أنشطة الاستخراج التجارية في القارة. إلا أن حكومات عدة أطراف أشارت إلى أنها
لن تدخل هذا الاتفاق حيز النفاذ. ولضمان سد الثغرات التنظيمية المتعلقة بالنشاط
المعدني في أنتاركتيكا، كانت المملكة المتحدة من الدول الرائدة في وضع بروتوكول
جديد لحماية البيئة، جرى التفاوض عليه وإنجازه في غضون عامين.
ينص البروتوكول البيئي على أن تلتزم الأطراف
بالحماية الشاملة للبيئة في القارة القطبية الجنوبية، واصفًا القارة بأنها محمية
طبيعية مخصصة للسلام والعلم. كما حددت المبادئ لحماية البيئة، إضافة لحظر جميع
الأنشطة التجارية المتعلقة بالموارد المعدنية، على أن يُطلب إجراء تقييم الأثر
البيئي لجميع الأنشطة قبل السماح لها بالمضي قدمًا. وقد طبقت الدول الأطراف في
اتفاق القطب الجنوبي البروتوكول البيئي في تشريعاتها الوطنية، كما سنّت بعضها
قوانينها المحلية الخاصة. ففي المملكة المتحدة، طُبق البروتوكول الذي احتوى على
ستة ملاحق من خلال قانون أنتاركتيكا 1994.
إضافة إلى ذلك، أنشأ البروتوكول البيئي لجنة حماية البيئة لتسهيل التعاون وتبادل المعلومات بين الدول حول القضايا البيئية في القارة القطبية الجنوبية وتقديم المشورة المتخصصة لاجتماعات المعاهدة القطبية الجنوبية الاستشارية السنوية. تعتبر اللوائح المنصوص عليها في البروتوكول البيئي ملزمة قانونًا لجميع الأطراف الموقعة.
فى الختام
تبقى أنتاركتيكا قارة الأسرار، حيث يتداخل العلم
مع الروايات الغامضة. وبينما تسعى المعاهدات والبروتوكولات إلى حمايتها وضمان
استخدامها للأغراض السلمية والعلمية، فإن القصص التي تدور حولها تظل جزءًا لا
يتجزأ من جاذبيتها، محفزةً الفضول البشري لاكتشاف ما يكمن حقًا تحت طبقات الجليد
السميكة."