# **فيلم "بلاد آرتو": تامارا ستيبانيان تروي جراح أرمينيا في افتتاح مهرجان لوكارنو السينمائي**
في خطوة لافتة، اختارت إدارة مهرجان لوكارنو
السينمائي، أحد أعرق المهرجانات الأوروبية، أن تفتتح دورتها الثامنة والسبعين
بفيلم لا ينتمي إلى السينما التجارية الصاخبة، بل بعمل يحمل في طياته هموم وطن
جريح وأسئلة إنسانية عميقة. فيلم "بلاد آرتو" (Arto's Land)، للمخرجة الأرمنية
تامارا ستيبانيان، كان بمثابة تحية سينمائية مؤثرة لأرمينيا، تلك الأرض المعلقة
بين أنقاض ماضٍ مؤلم ومستقبل ضبابي، مقدماً للجمهور العالمي نافذة على معاناة
نادراً ما تتصدر عناوين الأخبار.
![]() |
# **فيلم "بلاد آرتو": تامارا ستيبانيان تروي جراح أرمينيا في افتتاح مهرجان لوكارنو السينمائي** |
- يأتي الفيلم كصرخة هادئة ولكنها مدوية، تمزج بين الأسلوبين الوثائقي والروائي
- لترسم بورتريهًا شخصيًا وجماعيًا لبلد يكافح من أجل
البقاء وتضميد جراحه.
## **حبكة الفيلم رحلة في ذاكرة وطن جريح**
تدور أحداث "بلاد آرتو" في أعقاب حرب
ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020، الصراع الذي ترك ندوباً غائرة في الروح
الأرمنية. نتعرف على البطلة سيلين (تؤدي دورها الممثلة الفرنسية المرموقة كاميّ
كوتان)، وهي امرأة فرنسية في الأربعينيات من عمرها، تجد نفسها فجأة أرملة بعد وفاة
زوجها الأرمني "آرتو". مدفوعة بضرورة استكمال الأوراق الرسمية للحصول
على الجنسية الأرمنية لابنهما، تقرر سيلين السفر إلى وطن زوجها الراحل للمرة
الأولى.
- لكن هذه الرحلة الإدارية سرعان ما تتحول إلى رحلة استكشاف وجودية. تكتشف سيلين أن الرجل
- الذي شاركها حياته لسنوات طويلة كان يحمل في داخله عالماً من الأسرار والآلام لم يبح بها قط. كان
- آرتو جندياً سابقاً، هاجر إلى فرنسا ليبدأ حياة جديدة، لكنه لم ينجح أبداً في الهروب من أشباح ماضيه.
- من خلال لقاءاتها مع أصدقائه القدامى وعائلته، تبدأ سيلين في تجميع قطع بازل سيرة زوجها، وهي
- في الوقت ذاته، تكتشف الوجه الحقيقي لأرمينيا؛ بلد منهك بفعل ثلاثة عقود من الصراع مع
- أذربيجان، ومثقل بالخسارات البشرية والمادية.
الفيلم ليس عن الحرب ومشاهدها المباشرة، بل عن أثرها العميق، عن "صدمة ما بعد الحرب" التي تعيشها أمة بأكملها. ومن خلال عيني سيلين، الغريبة عن هذا المكان، نرى أرمينيا بعيداً عن الصور السياحية النمطية، كأرض تتنفس الألم والأمل في آن واحد.
## **شخصية آرتو شبح يطارد الحاضر الأرمني**
آرتو، الزوج الغائب الحاضر، هو المحور الرمزي
للفيلم. شخصيته التي لا نراها إلا من خلال ذكريات الآخرين، تجسد مأساة الهوية
الأرمنية المعذبة. هو ليس مجرد فرد، بل هو خلاصة لتاريخ من الصمود والانهيار:
* **الناجي
من الكارثة الطبيعية:** نجا من زلزال غيومري المدمر عام 1988 الذي قضى على جزء
كبير من ثاني أكبر مدن أرمينيا.
* **المحارب
في التسعينيات:** شارك في حرب ناغورنو كاراباخ الأولى وحارب من أجل أراضٍ اعتبرها
هو ورفاقه جزءاً من وطنهم.
* **المنهزم
في 2020:** لم يستطع تحمل صدمة الهزيمة في حرب 2020 واستعادة أذربيجان للأراضي
التي حارب من أجلها في شبابه، فاختار أن ينهي حياته.
موته ليس مجرد حدث درامي في قصة الفيلم، بل هو
استعارة لانهيار نفسي جماعي، وهو المسمار الذي يربط سيلين بهذه الأرض المجهولة،
ويجبرها على مواجهة أسئلة لم تكن لتخطر لها على بال، أهمها مصير ابنها الذي يحمل
دماً أرمنياً، واحتمالية أن يُستدعى يوماً ما للقتال من أجل هذا الوطن.
## **تامارا ستيبانيان السينما كوطن بديل**
لا يمكن فهم "بلاد آرتو" بمعزل عن
سيرة مخرجته تامارا ستيبانيان. فالمخرجة، التي غادرت أرمينيا طفلةً عام 1994، عاشت
حياة من التنقل بين لبنان وفرنسا والدنمارك. هذا الشتات الشخصي هو الوقود الذي
يغذي سينماها. تقول ستيبانيان: "كل أفلامي يسكنها المنفى والحنين. تركتُ
أرمينيا وأنا طفلة، وما زلت أبحث عن جذور... فوجدتُها في السينما. فقط في السينما
أشعر بأني في بيت حقيقي".
- هذا الشعور يفسر أسلوبها السينمائي الذي يقع على الحدود بين الأنواع الفنية. بعد تخصصها في السينما
- الوثائقية التي وقعت في حبها في الدنمارك، ظلت السينما الروائية حلماً يراودها. "بلاد آرتو" هو
- تتويج لهذه الرحلة، حيث تقول: "من خلال استكشافي للشكل الوثائقي طوال هذه السنوات، كنتُ
- أُحضّر نفسي للروائي. كما أنني أؤمن بوجود عنصر وثائقي في هذا الفيلم. غالباً ما أجد الأفلام
- الروائية مصطنعة ومُفتعلة، لذلك كنت أبحث عن روح وثائقية للفيلم".
هذه الروح الوثائقية تتجلى في الكاميرا
المتأملة، والمشاهد الطويلة التي ترصد تفاصيل الحياة اليومية في أرمينيا،
والحوارات التي تبدو وكأنها ارتجالية، مما يمنح الفيلم صدقاً مؤثراً.
## **نقد وتحليل بين صدق النوايا والاكتمال الفني**
على الرغم من ثراء رؤيته الإنسانية وصدق نواياه،
فإن فيلم "بلاد آرتو" لا يخلو من مشكلات بنيوية حالت دون أن يصبح عملاً
سينمائياً عظيماً. يمكن تلخيص نقاط قوته وضعفه في الآتي:
**نقاط القوة:**
* **الأصالة:**
يقدم الفيلم موضوعاً إنسانياً وسياسياً مهماً، ويسلط الضوء على قضية منسية
إعلامياً.
* **الرؤية
الإخراجية:** نجحت ستيبانيان في خلق جو شاعري حزين، وتقديم صورة بصرية مؤثرة
لأرمينيا.
* **المنظور
الأنثوي:** يقدم الفيلم وجهة نظر أنثوية ناعمة ومشتتة للحرب والحداد والذاكرة،
بعيداً عن بطولات الرجال.
**نقاط الضعف:**
* **هشاشة
البناء الدرامي:** يعاني السيناريو من ضعف في الخط الدرامي، مما يجعل إيقاع الفيلم
بطيئاً ومتردداً في أحيان كثيرة.
* **الأداء
التمثيلي:** باستثناء كاميّ كوتان التي قدمت أداءً متزناً، بدا أداء بعض الممثلين
الآخرين ضعيفاً وغير مقنع.
* **الحوارات
المباشرة:** تميل بعض الحوارات إلى المباشرة والتصريح، حيث تخبرنا الشخصيات بما
تشعر به بدلاً من أن تجسده، وهو ما يضعف الأثر الدرامي.
النتيجة هي تجربة سينمائية أقرب إلى سلسلة من
التأملات البصرية والشعرية المحبطة، تفتقر أحياناً إلى قوة الشهادة الوثائقية
الصادمة، وتماسك البناء الروائي المشوق. يبدو الفيلم مهذباً أكثر من اللازم، وكأنه
يخشى إزعاج المشاهد، بينما كانت قصته تحتمل الكثير من القسوة والشغف.
## ** شهادة سينمائية ضرورية وإن لم تكتمل**
في نهاية المطاف، يبقى "بلاد آرتو" فيلماً
مهماً وضرورياً. قد لا يغير وعي العالم الغربي تجاه الصراع في القوقاز، ولكنه ينجح
في فتح ملف إنساني معقد، ويطرح أسئلة جوهرية حول الهوية والذاكرة والانتماء. لا
يقدم الفيلم حلولاً، فالفن نادراً ما يفعل، لكنه ينجح في تعميق الأسئلة.
فى الختام
أهم ما يحققه الفيلم هو منحه صوتاً سينمائياً
لأرمينيا، صوت أنثوي، دافئ، ومشتت، يشبه تماماً البلاد التي يحاول أن يرسم ملامحها.
إنها شهادة سينمائية صادقة، حتى وإن لم تبلغ حد الكمال الفني، فإن وجودها بحد ذاته
يُعد انتصاراً للذاكرة ضد النسيان.