### **سيف ذو حدين: الصناعة النووية بين نعمة الطاقة ونقمة الدمار**
منذ أن أتقن الإنسان إشعال النار، ارتبط تقدمه بقدرته على تسخير مصادر طاقة متزايدة القوة. كل قفزة
حضارية، من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية، كانت مدفوعة بطاقة جديدة. لكن
هذا التقدم لم يكن يوماً بلا ثمن. ففي سعينا الدؤوب نحو القوة والازدهار، غالباً
ما نطلق العنان لقوى تحمل في طياتها بذور فنائنا. وعندما يُطرح السؤال: "ما
هي أخطر صناعة في العالم؟"، فإن الإجابة لا تكمن في مصنع يصدر دخاناً كثيفاً
أو منجم ينهار على عماله، بل في صناعة تجسد التناقض المطلق بين المنفعة الهائلة
والخطر الوجودي. إنها **الصناعة النووية**.
![]() |
### **سيف ذو حدين: الصناعة النووية بين نعمة الطاقة ونقمة الدمار** |
- إنها الصناعة التي تمنحنا "نار بروميثيوس" العصرية، طاقة شبه لامتناهية قادرة على إنارة مدن
- بأكملها من حفنة وقود، وفي الوقت ذاته، تحمل تهديداً غير مرئي وقاتل، يمكن أن يسمم الأرض
- لآلاف السنين ويطلق العنان لدمار لا يمكن تخيله. هذا المقال يغوص في أعماق هذه الصناعة، محللاً
- وجهيها المشرق والمظلم، ويطرح السؤال المصيري: هل يمكن للبشرية الاستغناء عن هذا السيف ذي
- الحدين؟
#### **الوجه المشرق نعمة الطاقة النووية وقوة الذرة**
لفهم جاذبية الصناعةالنووية، يجب أولاً إدراك حجم الإنجاز العلمي الذي تمثله. إنها تقوم على مبدأ بسيط ومدمر في آن واحد: الانشطار النووي. عند قذف نواة ذرة ثقيلة، مثل اليورانيوم-235، بنيوترون، فإنها تنشطر إلى نواتين أخف، مطلقةً كمية هائلة من الطاقة ونيوترونات إضافية تستمر في شطر ذرات أخرى في تفاعل متسلسل.
- هذه الطاقة، إذا ما تم التحكم فيها داخل مفاعل نووي
- تتحول إلى حرارة تستخدم لغلي الماء
- وتوليد بخار يدير توربينات لإنتاج
الكهرباء.
وتتجلى فوائد هذه
العملية في ثلاثة محاور رئيسية:
1. **كثافة طاقة لا تضاهى:** حبة وقود يورانيوم واحدة، بحجم ممحاة
قلم رصاص، يمكنها أن تنتج طاقة تعادل ما ينتجه طن من الفحم أو 149 جالوناً من
النفط. هذه الكثافة الهائلة تعني أن محطة نووية واحدة يمكنها أن تعمل لسنوات دون
الحاجة لإعادة التزود بالوقود، وتوفر طاقة لملايين المنازل من مساحة أرض صغيرة
نسبياً.
2. **طاقة نظيفة في مواجهة تغير المناخ:** في عصر أصبح فيه تغير
المناخ التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية، تقدم الطاقة النووية حلاً قوياً. فخلال
عملية التشغيل، لا تنتج المفاعلات النووية أي غازات دفيئة (مثل ثاني أكسيد الكربون)،
مما يجعلها واحدة من أنظف مصادر الطاقة على الإطلاق من حيث انبعاثات الهواء. بالنسبة
للدول التي تسعى لتحقيق أهدافها المناخية، تمثل الطاقة النووية أداة لا غنى عنها
لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري الملوث.
3. **موثوقية واستقلال الطاقة:** على عكس مصادر الطاقة المتجددة مثل
الشمس والرياح التي تتسم بالتذبذب (فهي لا تعمل إلا عند سطوع الشمس أو هبوب الرياح)،
توفر المحطات النووية طاقة ثابتة وموثوقة على مدار الساعة (طاقة الحمل الأساسي). هذا
الاستقرار ضروري لشبكات الكهرباء الحديثة. علاوة على ذلك، فإن امتلاك تكنولوجيا
نووية يمنح الدول درجة عالية من استقلال الطاقة، ويحررها من تقلبات أسواق النفط
والغاز العالمية والضغوط الجيوسياسية المرتبطة بها. فرنسا، على سبيل المثال، تولد
حوالي 70% من كهربائها من الطاقة النووية، مما يمنحها أمناً طاقوياً كبيراً.
#### **الوجه المظلم أخطار لا يمكن احتواؤها**
مقابل هذه الفوائدالجلية، يقف ظل طويل ومخيف من المخاطر التي تجعل الصناعة النووية الأكثر إثارة
للجدل في العالم. هذه المخاطر ليست مجرد احتمالات نظرية، بل هي حقائق مروعة شهدها
العالم بالفعل.
1. **شبح الحوادث الكارثية:** الخطر الأكبر هو إمكانية وقوع حادث
انصهار نووي. ورغم أن معايير الأمان صارمة للغاية، إلا أن الخطأ البشري أو الكوارث
الطبيعية غير المتوقعة يمكن أن تؤدي إلى ما هو أسوأ. حادثتان تاريخيتان تجسدان هذا
الكابوس:
* **كارثة
تشيرنوبل (1986):** انفجار المفاعل الرابع في محطة تشيرنوبل بأوكرانيا السوفيتية
أطلق سحابة إشعاعية هائلة لوثت مساحات شاسعة من أوروبا. لقد كانت كارثة إنسانية
وبيئية غير مسبوقة، أدت إلى وفيات مباشرة، وإصابة مئات الآلاف بأمراض مرتبطة
بالإشعاع مثل السرطان، وتهجير أكثر من 350 ألف شخص، وخلق "منطقة محظورة"
ستظل غير صالحة للسكن البشري لقرون. تشيرنوبل ليست مجرد حادث، بل هي جرح غائر في
ذاكرة البشرية يذكرنا بالثمن الباهظ للغطرسة التكنولوجية.
* **كارثة
فوكوشيما دايتشي (2011):** زلزال عنيف أعقبه تسونامي مدمر أدى إلى انقطاع الكهرباء
وأنظمة التبريد في محطة فوكوشيما باليابان، مما تسبب في انصهار ثلاثة مفاعلات. ورغم
أن عدد الوفيات المباشرة من الإشعاع كان أقل من تشيرنوبل، إلا أن الكارثة أدت إلى تلوث
المحيط الهادئ بكميات هائلة من المياه المشعة، وإجلاء أكثر من 150 ألف شخص،
وتحديات تنظيف ستستمر لعقود بتكلفة تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
2. **معضلة النفايات النووية الأبدية:** كل مفاعل نووي ينتج نفايات
عالية الإشعاع، وهي الوقود المستهلك الذي يظل مميتاً لآلاف، بل مئات الآلاف من
السنين. حتى يومنا هذا، لا يوجد حل نهائي ودائم لهذه المشكلة. يتم تخزين معظم
النفايات "مؤقتاً" في مسابح مائية أو حاويات خرسانية جافة في مواقع
المحطات النووية نفسها، وهو حل غير مستدام ومحفوف بالمخاطر الأمنية. فكرة "المستودعات
الجيولوجية العميقة" - دفن النفايات في تكوينات صخرية مستقرة تحت الأرض - لا
تزال تواجه تحديات تقنية وسياسية هائلة، حيث لا ترغب أي منطقة في أن تصبح "مكب
نفايات نووية" للعالم.
3. **خطر الانتشار النووي والتهديد الأمني:** التكنولوجيا المستخدمة
لتخصيب اليورانيوم لتشغيل المفاعلات هي نفسها التي يمكن استخدامها لصنع أسلحة
نووية. هذا "الازدواج في الاستخدام" يمثل تهديداً خطيراً للأمن العالمي،
حيث يخشى المجتمع الدولي دائماً من أن تسعى دول مارقة لتطوير برامج نووية مدنية
كغطاء لبرامج أسلحة سرية. بالإضافة إلى ذلك، هناك خطر وقوع المواد النووية أو
المشعة في أيدي جماعات إرهابية لاستخدامها في "قنبلة قذرة" يمكن أن تلوث
مدينة بأكملها وتثير الرعب والفوضى.
#### **جدل المستقبل هل يمكننا الاستغناء عنها؟**
هنا نصل إلى جوهر
السؤال. أمام هذا التناقض الصارخ، ينقسم العالم إلى معسكرين:
**المعسكر المؤيد** يرى
أن المخاطر، رغم جديتها، يمكن إدارتها والسيطرة عليها من خلال تصميمات مفاعلات
جديدة أكثر أماناً (مثل مفاعلات الجيل الرابع والمفاعلات النمطية الصغيرة SMRs)، وبروتوكولات سلامة صارمة. يجادل هذا
المعسكر بأن التخلي عن الطاقة النووية هو بمثابة تخلٍ عن أقوى أسلحتنا في معركة
المناخ، وسيجبرنا على العودة إلى حرق الفحم والغاز، وهو ما سيكون له عواقب وخيمة
على الكوكب.
أما **المعسكر المعارض**
فيرى أن المخاطر ببساطة لا تستحق المجازفة. حادثة واحدة على غرار تشيرنوبل كل بضعة
عقود كفيلة بمحو كل الفوائد. يجادل هذا المعسكر بأن التكلفة الحقيقية للطاقة
النووية (بما في ذلك تكاليف التفكيك وإدارة النفايات والتأمين ضد الحوادث) تجعلها باهظة
الثمن، وأن الاستثمار الهائل في مصادر الطاقة المتجددة الآمنة (الطاقة الشمسية
وطاقة الرياح) وتقنيات تخزين الطاقة (البطاريات) هو الطريق الأكثر حكمة واستدامة
للمستقبل. دول مثل ألمانيا اتخذت قراراً سياسياً جريئاً بإغلاق جميع مفاعلاتها
النووية.
** مسؤولية الاختيار**
في المحصلة النهائية،
الصناعة النووية ليست مجرد تقنية، بل هي اختبار لحكمة البشرية ونضجها. إنها تضع
بين أيدينا قوة هائلة، لكنها تتطلب منا مستوى غير مسبوق من المسؤولية، والدقة،
والبصيرة طويلة الأمد. لا توجد إجابة سهلة على سؤال إمكانية الاستغناء عنها. فالتخلي
عنها قد يبطئ معركتنا ضد تغير المناخ، بينما الاعتماد عليها يبقينا تحت رحمة خطر
كامن يمكن أن يغير وجه العالم في لحظة.
فى الختام
ربما يكمن الحل ليس في
الاختيار بين "نعم" أو "لا"، بل في "كيف" و "متى".
كيف يمكن تطوير جيل جديد من التكنولوجيا النووية يكون آمناً حقاً؟ ومتى ستصل مصادر
الطاقة المتجددة إلى النقطة التي يمكنها فيها تحمل العبء بالكامل؟ حتى ذلك الحين،
ستظل البشرية تسير على هذا الحبل المشدود، محاولةً الموازنة بين تعطشها للطاقة
وخوفها من القوة التي أطلقتها من عقالها في قلب الذرة.