**قواعد جديدة تضرب التسوق الرخيص عبر الإنترنت في أميركا: نهاية عصر "دي مينيميس" وتداعياته**
شهدت ساحة التجارةالإلكترونية العالمية تحولاً جذرياً مؤخراً، كان له وقعه الخاص على المستهلكين
الأميركيين والشركات على حد سواء. فبعد ما يقارب التسعين عاماً من تطبيق مبدأ "دي
مينيميس" اللاتيني، الذي كان بمنزلة بوابة ذهبية للتسوق الرخيص عبر الإنترنت،
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إنهاء هذه المعاملة المعفاة من الرسوم
الجمركية، ليُعاد بذلك تعريف قواعد اللعبة في استيراد البضائع ذات القيمة المنخفضة
![]() |
**قواعد جديدة تضرب التسوق الرخيص عبر الإنترنت في أميركا: نهاية عصر "دي مينيميس" وتداعياته** |
- . هذا القرار، الذي بدأ تطبيقه تدريجياً ليشمل الصين وهونغ كونغ ثم بقية دول العالم، يضع المستهلك
- الأميركي أمام حقيقة أسعار أعلى وفترات انتظار أطول، ويعيد تشكيل المشهد التنافسي للشركات
- العاملة في هذا القطاع.
**ما هو إعفاء "دي مينيميس"؟ المفهوم والتاريخ**
لم يكن مصطلح "دي
مينيميس" (De Minimis) معروفاً
على نطاق واسع خارج أروقة وسطاء الجمارك والتجارة الدولية، إلا أنه أصبح مادة دسمة
للعناوين الرئيسية هذا العام. يُترجم هذا المصطلح، الذي يعني حرفياً "ضئيل
جداً ليؤخذ في الاعتبار"، ليشير إلى الشحنات الصغيرة والطرود الفردية التي
تُرسل مباشرة إلى المستهلكين في الولايات المتحدة من الخارج. ولقد كانت الميزة
الكبرى التي يوفرها هذا الإعفاء هي عدم الحاجة إلى بيانات جمركية تفصيلية وعدم فرض
رسوم على هذه البضائع، طالما أن قيمتها لا تتجاوز حداً معيناً.
- تعود جذور هذا الإعفاء في القانون الأميركي إلى عام 1938، عندما أقر الكونغرس تعديلات على
- قوانين الرسوم الجمركية بهدف التخلص من الرسوم على السلع منخفضة التكلفة. كانت الفلسفة الكامنة
- وراء هذا القرار تتجلى في تجنب الإنفاق غير الضروري على تحصيل عوائد ضئيلة، وقد وصفها
- مسؤول سابق في وزارة الخزانة بأنها "إنفاق دولار لتحصيل 50 سنتاً". بدأ الحد الأقصى للإعفاء
- بدولار واحد فقط، وظل ثابتاً لعقود طويلة
ثم ارتفع إلى 5
دولارات في عام 1990، وإلى 200 دولار في عام 1993. وفي عام 2016، خلال إدارة
الرئيس باراك أوباما، شهد هذا الحد قفزة كبيرة ليصبح 800 دولار، وهو رقم يُعد
مرتفعاً جداً مقارنة بالعديد من الدول الأخرى. على سبيل المثال، في كندا، يبلغ
الحد الأقصى 150 دولاراً كندياً (حوالي 109 دولارات أميركية) للإعفاء من الرسوم
على البضائع القادمة من الولايات المتحدة والمكسيك، وينخفض إلى 20 دولاراً كندياً (حوالي
15 دولاراً أميركياً) للواردات من بقية دول العالم. أما في الاتحاد الأوروبي،
فالحد هو 150 يورو (حوالي 175 دولاراً أميركياً)، بينما تكتفي الصين بإعفاء الطرود
التي لا تتجاوز قيمتها 7 دولارات.
**الشركات المستفيدة ونهاية الامتياز**
لقد استغلت الأسواقالصينية منخفضة التكلفة، مثل "شي إن" (Shein)
و"تيمو"
(Temu) و"علي إكسبرس" (AliExpress) التابعة لمجموعة علي
بابا، هذا الإعفاء بشكل كبير على مر السنين للتوسع في السوق الأميركية. لقد عززت
هذه الشركات من تواجدها مستفيدة من شغف المستهلكين الأميركيين بشراء الملابس الرخيصة
والألعاب والإلكترونيات وغيرها عبر الإنترنت، وهو اتجاه تسارع بشكل ملحوظ خلال
طفرة التجارة الإلكترونية التي أحدثتها جائحة كوفيد-19. وشكلت التجارة الإلكترونية
العابرة للحدود شريان حياة للمصنعين الصينيين الذين يعملون بهوامش ربح ضئيلة، خاصة
بعد انهيار الإنفاق الاستهلاكي المحلي خلال الجائحة وعدم تعافيه بالكامل.
- في ظل هذا المشهد، برزت "شي إن" باستهدافها للمستهلك الأميركي الباحث عن الأسعار المخفضة
- مقدمة بلوزات بدولارين وقمصاناً بـ 10 دولارات. ثم دخلت "تيمو" السوق في عام 2022 بشعارها
- الجذاب "تسوق كالملياردير"، وأخيراً، أصبحت "تيك توك شوب" (TikTok Shop) لاعباً أحدث
- في هذه الساحة التنافسية.
لكن عصر الامتياز هذا انتهى، ففي الثاني من مايو (أيار)، توقف الإعفاء الجمركي بالنسبة للطرود القادمة من الصين القارية وهونغ كونغ، ثم تبعتها بقية دول العالم في الـ 29 من أغسطس (آب). هذا التحول سيغير من ديناميكيات الشراء والبيع بشكل جذري.
**تداعيات القواعد الجديدة على المستهلك الأميركي**
مع إلغاء إعفاء "دي
مينيميس"، لا يعني ذلك أن المستهلكين الأميركيين لن يتمكنوا من شراء الطرود
الصغيرة من الخارج، بل يعني أن هذه السلع ستخضع الآن للإجراءات الجمركية والرسوم
المستحقة.
هذه التكاليف الإضافية
قد تتحملها الشركات البائعة، أو قد يتم نقلها إلى المستهلكين بطريقة غير مباشرة
عبر رفع الأسعار، أو مباشرة عبر فرض الرسوم على المشتري عند إتمام عملية الشراء أو
عند الاستلام. ولقد شهدنا بالفعل بوادر هذا التغيير، حيث رفعت "شي إن" و"تيمو"
أسعار مجموعة واسعة من المنتجات، من الفساتين إلى أدوات المطبخ، قبل دخول الرسوم
حيز التنفيذ في الثاني من مايو الماضي. وتشير التقارير إلى ارتفاع متوسط أسعار 98
منتجاً مدرجاً على "شي إن" بأكثر من 20 في المئة بحلول أوائل مايو
مقارنة بأسبوعين سابقين.
- في قطاعات أخرى، أعلنت شركة "أوليفي يونغ" (Olive Young) الكورية الجنوبية لمستحضرات
- التجميل، التي استفادت من شعبية منتجات العناية بالبشرة الكورية بين المستهلكين الأميركيين، أنها
- ستضيف رسماً جمركياً بنسبة 15 في المئة على جميع الطلبات الموجهة إلى الولايات المتحدة اعتباراً
- من 27 أغسطس الماضي.
كما يُتوقع أن يتأثر
ذوو الدخل المنخفض في أميركا بشكل غير متناسب من نهاية هذا الإعفاء. فوفقاً لتحليل
المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية باستخدام بيانات عام 2021، كانت حوالي 75 في
المئة من الشحنات المباشرة المستوردة إلى أفقر المناطق البريدية تندرج ضمن فئة "دي
مينيميس"، مقارنة بـ 52 في المئة فقط في أغنى المناطق. هذا يعني أن الفئات
الأكثر اعتماداً على هذه السلع المخفضة ستكون الأكثر تضرراً.
**اضطرابات التوريد وتأثيرها على سلاسل الشحن**
لم يقتصر التأثير على
الأسعار فقط، بل امتد ليشمل سلاسل التوريد والشحن. فقبل الموعد النهائي في 29
أغسطس، أوقفت شركات البريد في أكثر من 20 دولة، بما في ذلك أستراليا وسنغافورة
والنرويج، شحناتها مؤقتاً إلى الولايات المتحدة. كان هذا الإجراء ناتجاً عن حالة
من عدم اليقين والغموض حول كيفية تطبيق النظام الجديد وتحصيل الرسوم.
- تعكس القيود التي فرضتها شركات عملاقة مثل "دويتشه بوست" (Deutsche Post) و"دي إتش
- إل" (DHL)، وهما من أكبر شركات الشحن العالمية، مدى الارتباك الحاصل. فقد أشارت الشركة
- إلى الغموض في شأن "من سيجمع الرسوم الجمركية وكيف، وما البيانات الإضافية المطلوبة، وكيف
- ستنقل إلى هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية".
إن الخدمات البريدية لم
يسبق لها التعامل مع هذا الكم الهائل من الأوراق والبيانات الجمركية التفصيلية
المطلوبة الآن، والتي يجب أن ترافق الطرود الداخلة إلى الولايات المتحدة. هذه
البيانات لا تشمل فقط محتويات الطرد وقيمته، بل تتعدى ذلك لتشمل بلد منشأ السلع،
ليس فقط بلد الشحن ولكن بلد الصنع أيضاً.
وبعيداً عن الاضطرابات
قصيرة الأجل الناتجة عن تراكم المعاملات، فإن عدداً كبيراً من شحنات التجارة
الإلكترونية قد تصبح أبطأ بشكل ملحوظ. فالارتفاع في التكاليف سيجعل الشحن الجوي،
المكلف أصلاً، غير مربح لنقل السلع منخفضة القيمة. وبدلاً من أن يصل الطرد خلال
يومين عبر الطائرة، قد يستغرق الآن ثلاثة أسابيع أو أكثر عبر رحلة بحرية من الصين
إلى الساحل الغربي الأميركي، مما يغير بشكل جذري تجربة التسوق السريع التي اعتاد
عليها المستهلك.
**الشركات الأكثر تأثراً وآفاق المستقبل**
لن يقتصر الأثر السلبي
لهذه التغييرات على الأسواق الصينية وحدها. بل سيمتد ليشمل البائعين الذين يعتمدون
على أسلوب "دروب شيبينغ" (Dropshipping)، وهي نماذج أعمال
لا تحتفظ فيها الشركات بمخزون فعلي، بل تقوم بشحن المنتجات مباشرة من المورد إلى
العميل. كما ستتأثر الشركات الأميركية الصغيرة التي كانت تستورد دفعات من السلع
تحت سقف 800 دولار لتفادي الرسوم، وحتى الشركات الصغيرة في الخارج التي تبيع
منتجاتها عبر منصات مثل "إي باي"
(eBay) و"إيتسي" (Etsy).
- ويبدو أن نهاية الإعفاء قد كبحت جماح الطلب الأميركي بالفعل، حيث تراجعت مبيعات "شي إن"
- الأسبوعية بنسبة 23 في المئة على أساس سنوي في أواخر يونيو، قبل أن تتعافى جزئياً. أما "تيمو"
- فقد شهدت تراجعاً أعمق، إذ انخفضت مبيعاتها الأسبوعية بأكثر من الثلث خلال يونيو، ولم تعد إلى
- مستويات العام الماضي بحلول منتصف أغسطس.
تثار أيضاً مخاوف من أن
يؤدي إلغاء الإعفاء في الولايات المتحدة إلى تدفق السلع الرخيصة، لا سيما الصينية،
إلى أسواق أخرى. وبسبب القلق من المنافسة غير العادلة مع المنتجات المحلية، بدأت
بعض الأسواق مثل بريطانيا بمراجعة ترتيباتها الخاصة بالإعفاءات على الواردات منخفضة
القيمة، مما قد يشير إلى اتجاه عالمي نحو تقييد هذه الامتيازات.
**كيف تطورت تغييرات ترامب على الإعفاء؟**
لم تكن هذه التغييرات
وليدة اللحظة. فبعد أيام قليلة من توليه منصبه، علقت إدارة ترامب قاعدة "دي
مينيميس" بالنسبة للصين القارية وهونغ كونغ، لكنها سرعان ما أرجأت التنفيذ
بينما كانت هيئة البريد الأميركية تبحث في كيفية تطبيق السياسة الجديدة.
- أعيد فرض التعليق فعلياً في مايو، مما أدى إلى فرض رسوم على المشترين لطرود تصل قيمتها إلى
- 800 دولار من الصين وهونغ كونغ. كانت هذه الرسوم في البداية تعادل 120 في المئة من قيمة
- الطرد أو رسوماً ثابتة قدرها 100 دولار. ولاحقاً، وبعد اتفاق أميركي - صيني لخفض الرسوم
- الثلاثية، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً بتقليص الرسوم إلى 54 في المئة، وهو ما يشير إلى تعقيدات
- وتطورات مستمرة في سياسة التجارة بين البلدين.
**خاتمة**
إن نهاية عصر "دي مينيميس" في الولايات المتحدة تمثل نقطة تحول كبرى في مشهد التجارة الإلكترونية العالمية. وبينما تهدف هذه القواعد الجديدة إلى حماية الصناعات المحلية وربما تحقيق إيرادات جمركية أكبر، فإن تداعياتها ستشعر بها فئات واسعة من المستهلكين والشركات.
إن الارتفاع المحتمل في الأسعار، وتأخر أوقات الشحن،
والتغييرات في نماذج الأعمال للشركات، كلها عوامل ستعيد تشكيل تجربة التسوق عبر
الإنترنت التي اعتاد عليها الكثيرون. يبقى أن نرى كيف ستتأقلم الأسواق والشركات مع
هذه التحديات الجديدة، وما إذا كانت ستظهر حلول مبتكرة للحفاظ على جاذبية التسوق
العابر للحدود.