recent
أخبار ساخنة

**"عائشة لا تستطيع الطيران": حين تُعانق السينما واقع المهمشين في القاهرة**

الصفحة الرئيسية

 

**"عائشة لا تستطيع الطيران": حين تُعانق السينما واقع المهمشين في القاهرة**

 

في بانوراما مهرجان كان السينمائي، حيث تتنافس الرؤى وتتوهج الإبداعات، يبرز فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران" للمخرج المصري مراد مصطفى، كعلامة فارقة في مسابقة "نظرة ما". هذا العمل الروائي الطويل الأول لمخرجه لا يكتفي بكونه مشاركة سينمائية لافتة، بل هو بمثابة بيان فني عميق حول تجربة الوجود الإنساني في بيئة لا تعترف به، وحول صراع البقاء في غياب الانتماء. الفيلم، الذي يتجاوز بجرأة سرديات الهجرة التقليدية، يقدم لنا شخصية "عائشة"، المرأة التي قد تمر بجانبنا في زحام الحياة دون أن نلحظها، لكنها على الشاشة تتحول إلى بطلة تروي بصمتها قصصاً لا تُحصى.

في بانوراما مهرجان كان السينمائي، حيث تتنافس الرؤى وتتوهج الإبداعات، يبرز فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران" للمخرج المصري مراد مصطفى، كعلامة فارقة في مسابقة "نظرة ما". هذا العمل الروائي الطويل الأول لمخرجه لا يكتفي بكونه مشاركة سينمائية لافتة، بل هو بمثابة بيان فني عميق حول تجربة الوجود الإنساني في بيئة لا تعترف به، وحول صراع البقاء في غياب الانتماء. الفيلم، الذي يتجاوز بجرأة سرديات الهجرة التقليدية، يقدم لنا شخصية "عائشة"، المرأة التي قد تمر بجانبنا في زحام الحياة دون أن نلحظها، لكنها على الشاشة تتحول إلى بطلة تروي بصمتها قصصاً لا تُحصى.
**"عائشة لا تستطيع الطيران": حين تُعانق السينما واقع المهمشين في القاهرة**


**"عائشة لا تستطيع الطيران": حين تُعانق السينما واقع المهمشين في القاهرة**


**القاهرة الأخرى عالم المهمشين بعيون عائشة**

 

يأخذنا مراد مصطفى إلى أعماق القاهرة التي نادراً ما تجد طريقها إلى الشاشة الكبيرة بالصدق ذاته؛ ليست القاهرة السياحية المتلألئة، بل هي أحياء مكتظة، تتصارع فيها عصابات محلية وأخرى من مهاجرين أفارقة، عالم سفلي حيث البقاء للأقوى أو لمن يجد سبيلاً لتقديم خدمات مقابل الحماية.

  •  في هذا المشهد القاسي، تتجسد عائشة، الشابة السودانية العشرينية (تؤدي دورها بوليانا سيمون بهدوء
  •  لافت وقوة تعبيرية كامنة)، وهي تكافح يومياً، لا تملك ترف الأحلام أو حتى حرية الرفض. كل شيء
  •  يُفرض عليها، حتى أمنها الشخصي مرهون بخدمات تقدمها لمن يوفر لها غطاءً هشاً.

 

يبدأ الفيلم بلقطة بسيطة لعائشة وهي تكنس الغبار في شقة تطل على ميدان التحرير، حيث تعتني بسيدة مسنة مريضة. هذه البداية الصامتة سرعان ما تتكثف لتصبح صرخة مكتومة، معلنةً انتماء الفيلم إلى تيار الواقعية الاجتماعية الصادمة. الكاميرا المحمولة تلتصق بالشخصيات، وغياب الموسيقى التصويرية المتعمدة يفسح المجال لضجيج المدينة، فيما الشخصيات الثانوية لا تقل أهمية عن الرئيسة، ويُقدم العالم دون أي محاولة للتجميل.

 يضيف المخرج لمسة فانتازيا مدروسة، تتمثل في ظهور حيوان النعامة لاحقاً، مما يرفع الفيلم إلى مستوى تأملي أعمق حول فقدان الإنسانية والتحول.

 

**جماليات السرد البصري وغياب الزخرفة**

 

يبرع مصطفى في استخدام لغة بصرية نقية، حيث الكاميرا ترافق عائشة كأنها ظلها، تتنفس معها، ترصدها من الخلف وهي تشق طريقها في الأزقة، أو تلتقط تعابير وجهها وهي تتلقى الإساءة بصمت مرير. من خلال عينيها، اللتين لكل منهما لون مختلف، نطل على وجه آخر للقاهرة، وجه تتراكم فيه طبقات الإهمال البشري.

  1.  عائشة ليست رمزاً أو استعارة مجردة، بل هي إنسانة مكتملة بخصالها وعيوبها، حتى وإن لم يُفسح
  2.  لها المجال للكلام كثيراً. هذا الصمت البليغ هو ما يمنح الفيلم قوته؛ المشاهد لا تُشرح، بل تُعاش
  3.  وتُشعر.

 

قرار الامتناع عن الموسيقى التصويرية قرار جمالي موفق، فهدير المدينة وأبواق السيارات ليسا مجرد ضوضاء خلفية، بل هما جزء عضوي من النسيج الصوتي للواقع الذي تُجبر عائشة على معايشته. مع مرور الوقت، تكاد هذه الأصوات تصبح غير مسموعة، تماماً كما هي عائشة، غير مرئية في مجتمعها.

 هذا الخيار يعزز شعور الغربة والاغتراب؛ المكان الذي لجأت إليه هرباً من الحرب في بلادها لا يرحب بها صراحة، ولكنه لا يطردها أيضاً، بل يستنزفها بصمت.

 

**رؤية المخرج من الذاتي إلى الموضوعي**

 

ينقل مراد مصطفى، الذي نشأ في حي عين شمس بالقاهرة، جزءاً من تجربته الشخصية في رؤية التحولات الاجتماعية التي طرأت على محيطه، حيث أصبحت الأحياء التي عرفها في طفولته مأهولة بكثافة من المهاجرين الأفارقة. لكنه لا يقدم فيلماً ذاتياً، بل يسعى لتصوير "الآخر" الذي هو جزء لا يتجزأ من النسيج المصري المعاصر، وإن تجاهلته السينما السائدة أو اختزلته في أدوار هامشية كاريكاتورية. 

  • هذه الرغبة في منح صوت وصورة للمهمشين 
  • هي امتداد طبيعي لفيلمه القصير السابق "عيسى"، الذي عُرض أيضاً في كان.

 

يعيد مصطفى توزيع الأدوار بذكاء، جاعلاً المهاجرة السودانية بطلة، ولو بطلة مضادة، بينما تتراجع الشخصيات المصرية إلى الخلفية أو تظهر كجزء من منظومة أوسع، هي ظالمة ومظلومة في آن واحد، وغالباً دون وعي منها بذلك. هذه المفارقة تخلق ديناميكية غنية، تضع المشاهد أمام مرآة لمجتمع يرفض أحياناً الاعتراف بالتغييرات العميقة التي تطرأ عليه.

 

**لا معجزات ولا نهايات سعيدة كرامة في وجه العبث**

 

تواجه عائشة سلسلة من الانتهاكات، تُمارس ضدها بسبب هشاشتها وغياب السند. حتى عندما تتلقى مساعدة، كما في علاقتها العابرة مع الطاهي عبده، فإنها لا تأتي من منطلق المساواة، بل من باب الشفقة أو المصلحة المؤقتة. الفيلم لا يمنحها لحظة انتصار، لا هروباً شافياً، ولا نهاية سعيدة متوقعة، ولا حتى "طيراناً" رمزياً كما يوحي العنوان وينفيه في آن.

  1.  استمرارية هذا العذاب ليست مجانية أو بهدف صدم المتفرج، بل هي انعكاس للحقيقة القاسية كما
  2.  يراها الفيلم: لا معجزات في حياة كحياة عائشة، ولا حلول سينمائية جاهزة.

 

  • ومع ذلك، ثمة كرامة أصيلة لا تُنتزع من هذه الشخصية، كرامة مستترة تحت غبار الواقع الذي تكنسه
  •  في بداية الفيلم، لكنها تتجلى في كل مرة ترفض فيها الاستسلام الكامل، وفي نظراتها الصامتة التي
  •  تحمل تاريخاً من الصمود. أسلوب مصطفى في العمل، حيث يركب اللقطة بصرياً أثناء تخيل المشهد
  •  بدلاً من الالتزام الحرفي بسيناريو تقليدي، يمنح الفيلم حيوية وصدقاً، ويحرر الممثلين، وغالبيتهم من
  •  غير المحترفين، ليقدموا أداءات تنبع من التجربة الحية أكثر من التلقين، مما يضيف إلى الفيلم
  •  مصداقيته الخام.

 الختام

في تجربته الروائية الطويلة الأولى الواعدة، يقدم مراد مصطفى فيلماً يتجاوز كونه مجرد قصة عن الهجرة. إنه عمل عن الوجود في مكان لا يعترف بك، عن البقاء دون جذور، وعن تلك المرأة التي تشبه كثيرات حولنا، غير مرئية في الواقع، لكنها تتألق كبطلة تراجيدية على شاشة السينما، حاملةً معها أسئلة مؤرقة حول الإنسانية والعدالة الصامتة. 

"عائشة لا تستطيع الطيران" هو شهادة سينمائية جريئة ومؤثرة، تستحق المشاهدة والتأمل العميق.

**"عائشة لا تستطيع الطيران": حين تُعانق السينما واقع المهمشين في القاهرة**


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent