**التمييز الدقيق بين الكوع والبوع: تصحيح المفاهيم الشائعة في لغة الجسد**
**مقدمة:**
يُعتبر جسم الإنسان آية من آيات الخلق، يتميز
بتركيبته المعقدة والمتناسقة، حيث يتألف من أنظمة وأعضاء تعمل بتناغم بديع. ويأتي
الهيكل العظمي كدعامة أساسية لهذا الجسد، فهو ليس مجرد مجموعة من العظام، بل هو
نظام هندسي متقن يمنح الجسم شكله، ويحمي أعضاءه الداخلية، ويمكّنه من الحركة
والتفاعل مع محيطه.
![]() |
**التمييز الدقيق بين الكوع والبوع: تصحيح المفاهيم الشائعة في لغة الجسد** |
وفي خضم هذا التعقيد، تبرز
أهمية الدقة في استخدام المصطلحات التشريحية، لا سيما تلك التي أصبحت جزءًا من
الموروث اللغوي والثقافي، ومن بين هذه المصطلحات التي يشيع الخلط فيها مصطلحا "الكوع"
و"البوع". يهدف هذا المقال إلى استجلاء الغموض حول هذين المصطلحين،
وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة، معتمدًا على ما ورد في المعاجم اللغوية وأقوال
العلماء.
**الهيكل العظمي البشري نظرة عامة**
يتكون الهيكل العظمي للإنسان البالغ من حوالي 206 عظمة (مع اختلافات طفيفة بناءً على العمر وطريقة العد)، وتتنوع هذه العظام في أشكالها وأحجامها ووظائفها. فمنها العظام الطويلة كعظمة الفخذ والعضد، التي تعمل كروافع للحركة، ومنها العظام القصيرة كعظام الرسغ والكاحل
- التي توفر الدعم والمرونة، والعظام المسطحة كعظام الجمجمة والكتف والأضلاع، التي توفر الحماية
- للأسطح الواسعة، والعظام غير المنتظمة كالفقرات وعظام الحوض، ذات الأشكال المعقدة التي
- تتناسب مع وظائفها المتعددة.
وتتصل هذه العظام ببعضها البعض عن طريق المفاصل،
وهي نقاط التقاء العظام التي تسمح بالحركة بدرجات متفاوتة. فالمفاصل هي مفتاح
ديناميكية الجسم، ولولاها لكان الإنسان كتلة صلبة عاجزة عن أبسط الحركات. إن فهم
هذه البنية الأولية ضروري قبل الخوض في تفاصيل المصطلحات المحددة.
**شيوع اللبس بين الكوع والبوع والكرسوع**
من الملاحظ أن هناك خلطًا شائعًا لدى العامة في التمييز بين مصطلحات "الكوع" و"البوع"، وربما "الكرسوع" أيضًا. وقد أدى هذا التشابه في الأسماء وتقارب المخارج الصوتية إلى استخدام هذه الألفاظ في غير موضعها الصحيح.
- ونجد في الموروث الشعبي مقولة "فلان لا يعرف كوعه من بوعه" للدلالة على الجهل أو عدم التمييز
- بين الأمور البديهية. إلا أن المصادر اللغوية تشير إلى أن التعبير الأدق والأقدم الذي كان يُستخدم
- للدلالة على البلادة
أو الغفلة هو "لا يعرف كوعه من كرسوعه".
يعود هذا اللبس جزئيًا إلى أن الاستخدام العامي
لكلمة "الكوع" قد انحرف عن معناها اللغوي الأصيل. فغالبية الناس اليوم
يستخدمون كلمة "كوع" للإشارة إلى المفصل البارز الذي يصل بين عظم العضد (في
أعلى الذراع) وعظام الساعد (الزند والكعبرة)، وهو ما يُعرف تشريحيًا بـ "المِرفَق".
أما كلمة "الزند"، ففي الاستخدام المعاصر قد يُقصد بها منطقة الساعد ككل
أو معصم اليد، بينما المعصم في اللغة هو "الرُسغ".
**التحديد اللغوي الدقيق للمصطلحات**
لتصحيح هذه المفاهيم، لا بد من الرجوع إلى أمهات
المعاجم اللغوية التي فصلت في هذه المصطلحات:
1. **الكُوع
(بضم الكاف):**
هو
العظم الناتئ عند طرف الزند (الساعد) الذي يلي إبهام اليد. بتعبير آخر، هو العظمة
البارزة في نهاية عظم الكعبرة (أحد عظمي الساعد) عند مفصل الرسغ من جهة الإبهام. وجمعها
"أكواع" و"كِيعان". فمكان الكوع الحقيقي هو في منطقة الرسغ من
جهة الإبهام، وليس مفصل المرفق كما هو شائع.
2. **البُوع
(بضم الباء):**
هو
العظم الذي يلي إبهام الرِّجل. أي أنه نظير الكوع في اليد، ولكنه يقع في القدم. فهو
العظمة البارزة عند مفصل مشط القدم مع إبهام القدم (أو ما يقابل الرسغ في القدم من
جهة الإبهام). ويُستخدم البوع أيضًا كوحدة قياس قديمة تساوي مقدار مدّ الذراعين.
3. **الكُرسُوع
(بضم الكاف والسين):**
هو
العظم الناتئ عند طرف الزند (الساعد) الذي يلي الخنصر (الإصبع الأصغر في اليد). فهو
يقابل الكوع، لكنه يقع على الجانب الآخر من الرسغ، أي جهة الإصبع الصغير. وهو
نهاية عظم الزند (أحد عظمي الساعد) عند مفصل الرسغ.
**توضيحات العلماء والشواهد الشعرية**
دأب العلماء قديمًا على تبسيط العلوم وتيسير
فهمها على المتعلمين وعامة الناس، وكثيرًا ما لجأوا إلى النظم الشعري لتحقيق هذه
الغاية، حيث يسهل حفظ الشعر واستحضاره. وفيما يتعلق بالتمييز بين هذه العظام، وردت
أبيات شعرية توضيحية، منها:
- * "وعظمٌ يلي الإبهامَ كُوعٌ، وما يلي لِخِنْصِرِهِ الكُرسوعُ، والرُّسغُ وَسْطُ"
- * "وما مِنْ رُسغِ رِجْلٍ فَهْوَ بُوعٌ فَكُنْ بِالعِلْمِ لا بالتَّبْعِ تَرْضَى"
وفي قول آخر أكثر تفصيلاً وجمعًا للمصطلحات:
- "الكوعُ والبوعُ والكرسوعُ إن أشكلا ** فما يلي إبهامَكَ الكوعُ**
- والخنصرُ الصغرى فكن ذاكرًا ** فما يلي ذلكَ الكرسوعُ**
- والرِّجلُ إن جاءت بتذكارهِ ** فما يلي إبهامَها البوعُ**"
هذه الأبيات تقدم طريقة سهلة لتذكر مواقع هذه
العظام: فالكوع مرتبط بإبهام اليد، والكرسوع بالخنصر (الإصبع الصغير لليد)، والبوع
بإبهام القدم.
**أهمية الدقة اللغوية في المصطلحات**
إن الدقة في استخدام المصطلحات، وخاصة تلك
المتعلقة بجسم الإنسان، ليست ترفًا لغويًا، بل هي ضرورة معرفية. فاللغة هي وعاء
الفكر، واستخدام المصطلح الصحيح يعكس فهمًا دقيقًا للمُسمَّى. وفي مجالات مثل الطب
والتشريح، يمكن أن يؤدي الخلط في المصطلحات إلى سوء فهم قد تكون له عواقب. كما أن
الحفاظ على هذه الدقائق اللغوية هو جزء من الحفاظ على ثراء اللغة العربية وفصاحتها.
**خاتمة**
يتضح مما سبق أن الفهم الشائع لمصطلح "الكوع" على أنه مفصل المرفق هو فهم خاطئ لغويًا. فالكوع الحقيقي هو عظم في الرسغ عند جهة الإبهام، والبوع هو نظيره في القدم عند جهة إبهام القدم، أما الكرسوع فهو عظم الرسغ عند جهة الخنصر.
والمفصل الذي يشير إليه الناس عادة بـ"الكوع" هو
في الحقيقة "المِرفَق". إن العودة إلى الأصول اللغوية واستيعاب هذه
الفروق الدقيقة يساهم في إثراء معرفتنا بأنفسنا وبلغتنا، ويجنبنا الوقوع في
الأخطاء الشائعة التي قد تطمس المعاني الأصيلة للكلمات.