### **ملاجئ إسرائيل: حصون للأمن أم أسوار للعنصرية؟**
عندما تنطلق صفارات الإنذار في إسرائيل، يتحول
المشهد اليومي إلى سباق محموم نحو الأمان. يتدافع السكان إلى الغرف المحصنة في
منازلهم، أو إلى الملاجئ العامة المنتشرة في الشوارع. هذه الصورة، التي تبدو كأنها
جزء من فيلم حربي، هي في الواقع حقيقة متكررة وراسخة في الوعي الجمعي الإسرائيلي.
![]() |
### **ملاجئ إسرائيل: حصون للأمن أم أسوار للعنصرية؟** |
- تمثل الملاجئ أكثر من مجرد هياكل خرسانية؛ إنها تجسيد مادي لعقيدة أمنية بدأت مع تأسيس الدولة
- وتطورت مع كل صراع، لتصبح رمزاً للبقاء في منطقة مضطربة. لكن خلف هذه الواجهة الخرسانية
- التي تعد بالحماية للجميع، تختبئ حقيقة أكثر قتامة وتعقيداً: حقيقة تكشف عن نظام منهجي من التمييز
- حيث لا يتساوى الجميع أمام خطر الموت، وحيث يصبح الحق في الأمان امتيازاً يُمنح للبعض
- ويُحجب عن آخرين.
#### **الجذور التاريخية بناء الحصن على أنقاض الذاكرة**
لم تكن فكرة الملاجئ مجرد رد فعل على تهديد مستقبلي، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من المشروع الصهيوني منذ البداية. وُلدت دولة إسرائيل عام 1948 على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية، وفي خضم تهجير مئات الآلاف من سكانها الأصليين. هذا التأسيس العنيف غرس في وعي القادة المؤسسين إدراكاً عميقاً بأن بقاء كيانهم الجديد مرهون بقدرته على تحصين نفسه.
لم يكن "هاجس الأمن" مجرد خيار سياسي، بل تحول إلى "عقيدة أمنية" (Security Doctrine) شاملة، تتغلغل في كل جوانب الحياة، من السياسة الخارجية إلى التخطيط العمراني.
- في هذا السياق، جاء قانون الدفاع المدني لعام 1951 كأحد أول التشريعات التي وضعت أسس هذه
- الدولة-الحصن. لم يترك القانون مسألة بناء الملاجئ للصدفة أو للاختيار الفردي، بل جعلها إلزاماً
- قانونياً صارماً. نص القانون على ضرورة تجهيز كل مبنى سكني أو صناعي أو عام بملجأ قادر على
- حماية الموجودين فيه من الغارات الجوية والقصف. وهكذا، ولدت شبكة واسعة من الملاجئ تحت
- الأرض، بالتوازي
مع بناء الدولة فوقها.
تطورت هذه الشبكة لتشمل أنواعاً مختلفة من
الملاجئ، لكل منها تسميته ووظيفته:
* **المماد
(مِرْحاڤ مُوجان دِيراتي):** وهو "غرفة آمنة" داخل كل شقة أو منزل خاص. أصبح
هذا النوع إلزامياً في كل بناء جديد بعد حرب الخليج عام 1991.
* **المماك
(مِرْحاڤ مُوجان كُوماتي):** وهو ملجأ جماعي يخدم طابقاً كاملاً أو عدة شقق في
المباني السكنية المشتركة.
* **المِكْلات:**
وهو الملجأ العام المنتشر في الأحياء والشوارع والمؤسسات العامة، وهو عبارة عن
حجرات ضخمة محصنة بالخرسانة المسلحة والفولاذ، ومصممة لاستيعاب أعداد كبيرة من
الناس.
اليوم، يوجد في إسرائيل أكثر من مليون ملجأ
وغرفة محصنة، وهي بنية تحتية لا مثيل لها في العالم. لقد أصبحت هذه الملاجئ جزءاً
من المشهد اليومي، حتى أنها تُستخدم في أوقات السلم كقاعات للأنشطة الاجتماعية أو
نوادٍ شبابية أو حتى معابد دينية، في تذكير دائم بأن حالة الطوارئ ليست احتمالاًبعيداً، بل واقعاً كامناً تحت السطح.
#### **تطور التهديد وتطور التحصين**
لم تتوقف استراتيجية التحصين عند قانون 1951. فمع كل حرب أو مواجهة، كانت إسرائيل تعيد تقييم تهديداتها وتكيّف بنيتها الدفاعية. شكلت حرب الخليج عام 1991 نقطة تحول كبرى، حين سقطت صواريخ "سكود" العراقية على تل أبيب ومدن أخرى.
- لقد كشف هذا الهجوم عن ضعف الملاجئ العامة البعيدة عن المنازل، حيث لم يكن لدى السكان الوقت
- الكافي للوصول إليها. نتيجة لذلك، صدر تشريع جديد يلزم كل مقاول ببناء "مماد" داخل كل وحدة
- سكنية جديدة كشرط أساسي للحصول على رخصة بناء. لقد "خُصخِصَ" الأمان، وأصبح جزءاً من
- تصميم
المنزل، تماماً كالمطبخ أو غرفة النوم.
جاءت حرب لبنان الثانية عام 2006 لتمثل تحدياً
جديداً. أظهرت قدرة حزب الله على إمطار شمال إسرائيل بآلاف الصواريخ أن التهديد لم
يعد مقتصراً على حروب مع جيوش نظامية، بل أصبح يأتي من تنظيمات مسلحة تمتلك
ترسانات ضخمة. رداً على ذلك، أطلقت السلطات الإسرائيلية برنامجاً ضخماً لبناء
وتجديد الآلاف من الملاجئ العامة الإضافية في البلدات الشمالية، في محاولة لسد
الفجوات في الحماية.
ومع تصاعد التوترات الإقليمية، خاصة مع إيران، وتطور قدرات الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار، يظل السؤال المحوري قائماً: هل توفر هذه الشبكة الهائلة من الخرسانة والفولاذ الأمان الحقيقي للجميع؟
#### **الصدع في جدار الحماية عندما تكشف العنصرية وجهها**
جاءت الإجابة الصادمة على هذا السؤال في مقطع
فيديو قصير انتشر كالنار في الهشيم خلال إحدى جولات التصعيد الأخيرة. يظهر في
الفيديو عامل تايلاندي يحاول الاحتماء في ملجأ عام مع آخرين، ليواجهه رجل إسرائيلي
بالصراخ في وجهه بلهجة آمرة وعنصرية: "ماذا يفعل هذا التايلاندي هنا؟ اخرج! هيا!".
- كانت هذه اللقطة بمثابة شرارة أشعلت جدلاً واسعاً. لم تكن مجرد حادثة فردية معزولة، بل كانت مرآة
- عكست مرضاً عميقاً في المجتمع الإسرائيلي. في لحظة الخطر الوجودي، حيث يُفترض أن تتلاشى
- الفوارق أمام غريزة البقاء، تجلّت العنصرية بأبشع صورها. لم يكن العامل التايلاندي يُرى كإنسان
- يبحث عن ملجأ من الموت، بل كـ"آخر" غير مرغوب فيه، كدخيل لا يستحق ذات
الحق في الحياة.
أثارت الحادثة ردود فعل متباينة. حاول البعض
تبريرها بأنها "مزحة"، بينما سارعت حسابات إعلامية إسرائيلية إلى نشر
مقاطع "مضادة" تظهر عمالاً أجانب يُستقبلون في الملاجئ، في محاولة واضحة
لتجميل الصورة وإصلاح الضرر. لكن الضرر كان قد وقع بالفعل، لأن الفيديو لم يكشف عن
سلوك فردي شاذ، بل كشف عن قمة جبل الجليد لنظام تمييزي راسخ.
#### **جغرافيا التمييز الحماية كامتياز وليس كحق**
الحقيقة الأكثر إيلاماً هي أن هذا التمييز ليس
مجرد سلوك فردي، بل هو سياسة دولة ممنهجة. فبينما تتمتع المدن والبلدات اليهودية
بشبكة كثيفة من الملاجئ والغرف المحصنة، تعيش غالبية البلدات العربية داخل الخط
الأخضر في حالة من العراء التام، محرومة من أبسط وسائل الحماية.
الأرقام التي نشرتها جمعيات حقوقية مثل "جمعية
الجليل" تكشف عن فجوة فاضحة ومروعة:
* حوالي
**70%** من البلدات والقرى العربية في شمال البلاد تفتقر تماماً إلى الملاجئ
العامة أو الغرف الواقية.
* في
منطقة النقب جنوباً، يعيش أكثر من **90,000** فلسطيني من عرب النقب، معظمهم في قرى
غير معترف بها من قبل الدولة، دون أي ملجأ أو غرفة آمنة، وحتى دون صفارات إنذار
لتحذيرهم من خطر الصواريخ القادمة.
- هؤلاء المواطنون، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويدفعون الضرائب، يُتركون لمصيرهم عند كل
- جولة قصف. إن غياب الملاجئ في مناطقهم ليس مجرد إهمال أو مصادفة، بل هو نتيجة مباشرة
- لسياسات تمييزية في التخطيط والبناء والميزانيات، حيث تُعامل هذه المجتمعات كمواطنين من الدرجة
- الثانية (أو الثالثة)، لا تستحق حياتهم نفس القدر من الحماية التي توليها الدولة
لمواطنيها اليهود.
هذا الواقع يحول الملاجئ من أداة للحماية إلى
أداة للفصل العنصري. إنها ترسم خطاً واضحاً بين من يستحق الحياة ومن يمكن التضحية
به.
#### **أصداء من الهامش السوشيال ميديا كساحة كشف**
عكست منصات التواصل الاجتماعي هذا الانقسام
بوضوح. علّقت "منال السعيد" بسخرية مريرة: "إذا أصحاب الأرض (الفلسطينيون)
ما بيدخلوهم الملاجئ، بدك إياهم يدخلوا العمال؟ ازدواجية مش طبيعية". يربط
هذا التعليق ببراعة بين التمييز ضد العمال الأجانب والقضية الأصلية المتمثلة في
حرمان الفلسطينيين من حقوقهم.
وغرّد "سرور" بكلمات قوية: "حرموهم
من المأوى وتركوهم في رعب بالخارج... حتى حين أمطرت السماء ناراً، ظلت العنصرية
ثابتة ولم تهتز منظومة الفصل العنصري".
هكذا، تنتهي القصة بمشهد يلخص كل شيء. فبينما
يفضل البعض، كما ورد في تعليقات إسرائيلية، "الموت على مشاركة الملجأ مع عامل
أجنبي"، يُترك هؤلاء العمال والفلسطينيون ليحتموا في أماكن مهملة وقذرة، أو
في العراء. تلك الصورة ليست مجرد لقطة عابرة، بل هي خلاصة سردية تمتد لأكثر من
سبعين عاماً.
الختام
في النهاية، تكشف حكاية الملاجئ في إسرائيل عن
مفارقة أساسية: إنها مشروع بُني ظاهرياً لحماية الحياة، ولكنه في جوهره يقوم على
التفريق بين الأرواح. إنها حصونٌ شُيّدت ليس فقط للحماية من الصواريخ، بل أيضاً
للحفاظ على جدران الفصل والتمييز، لتظل شاهداً خرسانياً على أن الأمان في "الدولة
الحصن" هو سلعة نادرة، لا تُمنح إلا لمن ينتمي إلى المجموعة الصحيحة.